بحور الغيب

يقال الكثير من الأمثال في سكان البلاد التي تجاور البحر، و كيف سكب عليهم من صفاته، و من عمقه، و غموضه، و تقلباته، و قوته و سحره و جماله حين صفوه. و كيف ألبسهم من حلل الشدة و الصبر حين غضبه و هياجه وقت تشتد الريح، و تعصف الغيوم. قالوا عنهم : أهل البحر الاشداء، العنيدون، المحبون للحياة وبها يتغنون، يفتحون بيوتهم للضيوف، و كل ما يحمل البحر من زوار بالترحيب و الإكرام. قالوا عنهم الطيبون المتسامحون، و لكنهم شديدو المراس، الذين لا يغرنك ترانيم الألحان التي يغنون ويدندنون، و يصدق فيهم قول المثل:”اتق شر الحليم اذا غضب.”

كثيرة تلك الأمثال التي كنت أسمعها و أنا طفلة صغيرة، و حتى كبرت، كنت أضحك كثيراً من تلك الأمثال المتداولة، و التي كان البحر فيها أصل المثل ” اللي مش عاجبه يشرب مية البحر”. قدر ما أضحكني هذا المثل و أنا فتاة شابة عاشت و ولدت في غزة، أبكاني منظر الناس و هي تلجأ للبحر تغتسل بماء البحر للصلاة و الوضوء، و قد منعوا الماء و أصابهم العطش، و ليسوا في صحراء، و لا جدب، فشربوا من بحر غزة عطشى و مرغمين، و لكنهم يدركون ادراك اليقين أنه ابتلاء و أن الله مع الصابرين.

رمضان لم يأت بعد، و الصيام علينا فرض، و أكثر ما يشتهي الصائم شربة ماء، و لكن أهل غزة يصومون …. من لم يصمه نافلة … صامه ضرورة حين لا طعامٍ يؤكل، و لا ماء يُشرب أو يُغتسل به … هل جربت الحياة يومين بلا ماء؟ أم …هل شربت ماء مالحاً يوما ….. لتعرف معنى أن تشرب ماء البحر؟ و بلغت الغصة في حلقي مبلغها، و ذلك الطفل الصغير يرفع رأسه للسماء و قد أمطرت ،و قد فتح فمه يبتلع ماء المطر، و هو يرقص فرحاً و يقول: علم ربي أني عطشان، فسقاني الماء الذي منعه العدو عني، فربي رب السماء، و منزل الغيث.. أعلم بنا و هو حسبنا و وكيلنا، و هو يطعمنا و يسقينا.

و يحضرني مثل آخر:” الزعلان يخبط رأسه في الحيط.” تري كم من غزاوي لن يجد حيطاً يخبط رأسه به ، و قد دمرت أكثر من ثلاثة أرباع حيطانها في هجوم وحشي لم يشهد له التاريخ الحديث مثيل، على مرآى و مسمع من كل العالم. أهل غزة لا يوجد في قلبهم متسع للزعل، فهم يعلمون أنه الإبتلاء. وها هو قد سكب البحر ملحه على قلوبهم و نكأ جراحهم ، و أوجعهم الألم … نفس الألم الذي ذاقه أجدادنا في نكباتٍ متلاحقةٍ منذ ما يقارب الثمانين عاماً. سمعت جدتي وأنا طفلة صغيرة، هي تصف لنا هجرتها من بيت دراس الى غزة ، و ما عانوه من ويلاتٍِ و ما ذاقوه من ألمٍ، و ما خسروه من شقاء العمر، و ضياع ما زرعوه من سنين، و ما فقدوه من بيوت و حقول، و ما ودعوه من هناء العيش. كنت ألاحق الدمع المترقرق في عينيها بالحزن و التأثر، و لكن أن تسمع شيئاً … و أن ترى بأم عينيك .. هو شييء آخر! للألم تلك الحرقة التي تحس بها حين تغسل جراحك بماء البحر، و كيف لا، و قد أصبحت المشافي حطام و الشكوى، و صياح الألم …ممنوع و حرام … فاصبر أيها المصاب، و احتسب فالدواء إن وجد فهو بالقطرة. و لسان العدو يقول : زمن الأحلام قد ولى و معه النوم ، و رفيقك أيها الغزاوي الأرق و الألم، و زمن الأماني و الآمال قد انتهى و طار، و ودع أيها الفلسطيني كما ودع أجدادكم كل ما يحتاجه الإنسان … فأنت ابن الشعوبً التي لديها متلازمة النسيان. .

غزة البحر الكبير المتجدد كأطفاله و أهله ، والذي لا يهدأ موجه و لا يتوقف مده و جزره …. كما غضبه و رضاه. غزة … ليست إسم على الخريطة، و ليست فقط غزة هاشم، وغزة المقوقس التي لا يعرف الكثير من أبناء هذا الجيل تاريخها، هي غزة الشوكة التي تنشب في حلق من أراد ابتلاعها، ومن أراد لها الأذى، هي أرض العجائب و الغرائب، أرض الأشداء الذين لا تكسرهم النوائب.، و هي تاريخٌ باقٍ، و حاضرٌ دائم ما بقي البحر هناك. أهل غزة هم الصامدون الصابرون، و هم من حفظوا كتابه في قلوبهم، و توكلوا عليه، و لا يعرفون بحور الغيب و لكنهم يعرفون معرفة اليقين بأن الله معهم.

One Comment اضافة لك

  1. أفاتار ابو كرم ابو شاويش ابو كرم ابو شاويش كتب:

    بسم الله الرحمن الرحيم. { إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ ۖ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ }

    كلا الطرفين يتألم ، لكن الفارق عظيم نرجو جنة عرضها السموات والأرض ، وهم لايرجون الا الحياة. صباح الخير و السلامة و الطمئنينة🪴

اترك رداً على ابو كرم ابو شاويش إلغاء الرد