قصة لوحة (2)

on

وقفت على المرسمِ شامخةً بلونها الأبيضِ، و كنتُ أحسُ بها تراقبُ عينايَّ اللتان كانتا تسترقانِ النظرَ اليها كلما دخلتُ الغرفةَ، و كأنها تحدثني، و تستفزني قائلةً: أعرفُ أنك سوف تأتيني حينَ ترتجفُ أصابعكِ شوقاً  للإمساكِ بالفرشاةِ، و عيناكِ للإبحارِ في عالم ِالألوان. كنتُ محاصرةً بالفكرِ التي تشوشُ على قلبي و عقلي كما لو كانت بيضُ السحبِ التي بدأت تتلاصقُ مع بعضها قبلَ أن تشتدَ ريحُ الرغبةِ في الإفراجِ عن كلِ تلك المشاعرَ و الفكر التي غمرتْ قلبي بما  لم أعهده من قبل، و قد أحسستُ برغبةٍ شديدةٍ في تغطيةِ بياضِ تلكَ اللوحةِ التي أمست بالنسبةِ لي كمريضٍ مستلقٍ في بياضِ الثيابِ … فوقَ بياضِ الأسرةِ . كان يجبُ أن أداويها بما يشفيها و يضمدُ جراحها….. كان يجبُ أن أرسمها. لم أحس بنفسي حينَ أمسكتُ تلكَ الفرشاةِِ العريضةِِ، و بدأتُ بطلاءِ نصفَ اللوحةِ باللونِ الأزرقِ، و الآخرَ بلونِ الترابِ البني الفاتح. ماذا أردت أن أرسمَ لا أعرف و لم أكنْ أعرف؟ هي السماءُ الزرقاءُ بما تعنيهِ من الأحلامِ و الآمالِ و الأماني .. و تلكَ الأرضُ بلونها البني التي نمشي عليها يسعى كلٌ منا فيها الى طريقٍ لا يدري أ…. لفرجٍ أم لضيق.

 تركتُ اللوحةَ … و قلت لنفسي: غداً سأجدُ فكرةً، أو صورةً أرسمها، و غادرتُ الغرفة، و نسيتُ أمرَ اللوحةِ لأيام. عدتُ و   قررت أن أرسمَ لوحةً تكون توأم للوحةٍ أخرى  كنت قد رسمتها من سنين، و قلتُ لنفسي ستكونُ جميلةً بجوارِ لوحةٍ تشبهها و تشاركها الألوانَ و الفكرةَ، و ستجدُ لها ونيساً. لم أدركْ صعوبةَ أن أرسمَ ما أردتُ، و قد فرضتْ عليّ اللوحةُ سلطانها، و أنا أقاومُ اللونَ الأزرقَ الذي غيرَ معادلة َالألوان ِ. فاللونُ الأصفرُ أصبح أخضرا و اللونُ الأحمرُ بنياً  و كذلك أعجزني اللون البني الذي رفضَ التعاملَ مع الألوان ِ كما هي، و لم يقبل ْ التعامل مع أيَِّ لونٍ سوى اللونِ الأسود. كان يجبُ أن أعودَ لطلاءِ اللوحةِ باللونِ الأبيضِ  .. لإتاحةِِ  قليلاً من الفضاءِ الذي يتسعُ للخيالِِ و السكونِِ، و لاستيعاب الفكرِ و الألوانِ كما هي في كينونتها.

هو القرارُ و الاختيارُ الأولُ …..  من يحكمان كلَ الحاضرِ و القادم. و ما أصعبَ تصحيحِ القراراتِ الخاطئةِ .. مهما كانت بسيطة و تافهة. هذا ما راودني و أنا أحاولُ مزجَ الألوانِ لأرسمَ ما أردتُ رسمهُ، و قررتُ سردَ حكايتهِ كما هي في الحقيقةِ، و لم استطعْ. أحسستُ بنفسي كخياطةٍ قد قصتَ القماشَ، و خاطتهُ،  و لكن النتيجةَ كانت غيرَ مرضيةٍ، و أرادت إعادةَ تصميمهِ، و لم تكنْ قطعةُ القماشِ كافيةُ لحياكةِ أيِّ تصميمٍ جديدٍ أرادتهُ، و قد كانت الخياطةُ تحتَ سلطانِ قصاصاتِ القماشِ التي سبقَ أن قطعت.

أحببتُ دوماً رسمَ الوردِ و الفاكهةِ، لربما لأنهم يشبهونَ كلَ الناسِ في حياتي .. لكلِ منهم طعمٌ و لونٌ و موسم، و لكني أحبهم جميعاً .. و ظننتُ أني سأتحايلُ على اللوحةِ، و أتحكمُ بألوانها، و سيساعدني تنوعُ الفاكهةِ و اختلافِ ألوانِ الوردِ على اكمالِ هذه اللوحة. و ما إن بدأتُ برسمِ الوردِ حتى نسيتُ كلَ شيءٍ، و أبحرتُ في عالمِ الألوانِ و الذكرياتِ و تفاصيلِ كل الحواراتِ و زوايا الأماكنِ و صوت الضحكاتِ و تعابيرِ الكلمات . كلهم  من يشبهون الوردَ و الفاكهةَ…حضروا معي الحفلَ، وقد قبلوا دعوتي، و لم أفقْ إلا حينَ نفذَ- من طبق الألوانِ- اللون الأحمر. توقفتُ … و كأنَ نبضَ اللوحةِ … وقفَ من زحمةِ الألوانِ، و ثقلِ  ضرباتِ الفرشِ لساعاتٍ طوال، و أدركتُ حينها الألم الذي تعانيهِ قدمايَّ و ظهري من  الوقوفِ الذي لم أحس بطولهِ و لا بوقته. تراجعتُ للوراءِ أطالعُ ما رسمت …. و ضحكتُ رغمَ الألمِ، و قلتُ لنفسي: يكفي ما أنجزت اليومَ .. و جررت قدمايّ لأغادرَ الغرفةِ و أنا أضعُ أنبوبِ اللونِ الأحمرِ الفارغِ في سلةِ القمامةِ، و أحسستُ باللوحةِ تقولُ لي ساخرةً و مرهقة: لا يعرفُ أحدكمُ متى يتوقفُ … حتى يعجزُ عن الوقوف مجبراً.

1 Comments اضافة لك

  1. رياض وادي كتب:

    تتزاحم الافكار كما تتلاطم الالوان

أضف تعليق