أصحاب العقول في راحة

on

Palestine country of beauty

أبي .. حكيمُ زمانهِ .. هذا ما رددته و أنا طفلةٌ صغيرة لشدةِ تعلقي بأبي و حبي له. إن طولَ رفقتي له، و حرصي على تمضيةِ أطولَ الأوقاتِ معه كانَ له ُأكبرَ الأثرِ في تشكيلِ شخصيتي. أبي رمزٌ للكفاحِ و النجاحِ .. ليس فقط لذكائهِ، و استقرائهِ للمستقبلِ … بل أكثرَ من ذلك كان اجتهادهُ و عملهُ الدؤوبِ بلا كللٍ و لا ملل أو يأس

من مهاجرٍ وسطَ أسرةٍ من أكثرِ من ثلاثين شخص .. لم ينتظرْ إعانةً و لم يقبلْ بالمسلَّمِ من الأمورِ التي أُرغمَ عليها المهاجرون من داخل فلسطين إلى قطاعِ غزة، و التي لنْ أكتب عنها اليوم … أذكرُ أن أبي في خلال أقل من خمسِ سنواتٍ من هجرته كشابٍ انقطع عن الدراسةِ، و أُرغم على ترك كل ما يملك طواعية، استطاعَ تعلمَ مهنةٍ جديدة في مدينةِ العريش المصرية، و عاد إلى غزة و بدأَ حياةً عمليةً ناجحةً جعلته من أغنياءِ القومِ، و ارتفعَ بنفسهِ و اسرتهِ فرداً فرداً لم يستثنِ منهم أحدا. علَّمَ إخوته صنعتهُ في مجالِ تقنياتِ تركيبِ الأسنان، و كان الأولَ والوحيدَ في قطاعِ غزة. أسكنَ أهلهُ و أطعمهم و تكفلَ باحتياجاتهم و تكاليف دراسةِ أبنائهم. لقد تكفلَ أبي بتخريجِ الأطباءِ و المهندسين و عمداءِ جامعات من أبناءِ العائلةِ الذين يعملون في أصقاعِ الأرضِ المختلفة. أبي رجلٌ محبٌ للعلمِ و الخيرِ و العطاء

يستحضرني اليوم ذكرياتِ كلَ يوم أمضيته مع أبي من طفولتي إلى أن تزوجت و تركت القطاع . كانَ يومُ الجمعةِ يومُ الإجازةِ لنا جميعاً …في ذلك اليوم و بعد صلاةِ الفجرِ يغادرُ أبي باكراً إلى البيارة( المزرعة) في منطقةِ ديرِ البلح، ليشرفَ على أمورها و يتقفدَ الشجرَ و الأرضَ و الماءَ و العمال. كنتُ الوحيدةُ من إخوتي و أخواتي من عشقَ الصبحَ، و تصادقَ مع الفجرِ، و كنتُ لا يؤنسني سمرُ الليلِ، و لا مناجاةُ النجوم. كنت أحبُ … و لا زلت أحبُ النومَ باكرة. رافقتُ أبي في رحلتهِ الأسبوعيةِ بلا انقطاعٍ، و عرفتُ رجلاً … قلَ من عرفه. ما إن تطأ قدماهُ الأرضَ حتى تستبشرُ ملامحُ وجههِ، و ما إن يمسكَ المعولَ، و يبدأَ في تعديلِ مساراتِ قنواتِ الماءِ تحتَ الشجرِ .. حتى يبدأ بغناء أهازيجَ جميلة  تحملكَ لعالمٍ من الفرحِ، و يبدأ أبي بذكرِ كلِ قصةٍ و مثلٍ و بِسردِ حكايةِ … كلِ نغم

في أحد تلك الجمعات التي رافقته وحيدةً  بدون إخوتي و أخواتي ذلك النهار، و كعادته يطبخُ أبي الطعامَ بيدهِ على طريقتهِ الخاصة. يجمعُ الحطبَ بيديهِ و يشعلُ النارَ، و كانَ لهُ أوعيةً خاصةَ كتلكَ الطنجرةِ الألمونيوم الطويلةِ و مقلى ثقيل أسودِ اللونِ له يدٍ خشبيةٍ طويلة. لم يكنْ يستخدمْ الملعقة للتحريكِ- بالرغم من وجود مطبخ بكامل المستلزمات-  بل كانَ يستخدمُ عصاً طويلةً من شجرةِ الزيتون الضخمة المباركةِ القابعةِ في فناءِ الفيلا الكبيرة ذاتِ الطابقين التي تعترشها أغصانُ شجرةِ العنبِ المتدلية من أعلى البناءِ، كأنها حسناءُ استيقظتْ من النومِ، و لم تمشطْ شعرها الناعمِ بعد. يطبخُ الطعامَ الذي اشترينا متطلباتهِ المحددةِ و نحن في طريقنا للمزرعة .. البصل و البندورة و الفلفل الأخضر الحار و اللحم المقطعِ( لسان العصفور) لنا و للعمال في المزرعةِ كان يدندنُ طولِ الوقت بصوتٍ كله حبٌ و مرحٌ و بين كل وقت و وقت يستوقف دندنته بالدعاء ..اللهم عفوك و سترك و رضاك. أكتب كلماتي و أنا أتذوق ذلك الطعام َعلى طرفِ لساني و طعمَ الفلفلِ الحارِ و ذلك اللحم الطري و البندورة الحامضة  …..لذة لا تدانيها لذة  ….ذلكَ الطعامُ له نكهةٌ فريدة … أنها نكهة الحب

لا يغركَ ما تقرأُ من لطفهِ و لينهِ و كرمهِ و طول باله، فلم أر رجلاً شديداً غضوباً للحق مثله. رجلاً لم يعترف يوماً بأنصافِ الحلول و لا بماشي الحالِ أو المقبول، رجلٌ لا ينشد سوى الصحيحَ الكاملَ الواجبَ هو فقط ما يجب أن يكون.  فيومُ الجمعةِ يومهُ، أو بالأصحِ اليومُ الذي يحاولُ أن يرتاحَ من كثرةِ ما لديه من مشاغلٍ و التزاماتٍ و مشاكلَ يعرفُ يقيناً أنها بانتظارهِ بمجردِ مغادرته البيارة. قالَ لي ذات مرةٍ و أنا أرددُ معه أغنيةً، و أقتلعُ بعضَ الأعشابِ الضارةِ من تحتِ شجرِ البرتقال، و قد انتشينا من رائحةِ عطرِ زهرهِ التي غسلتْ قلبينا: الأرضُ تفهمُ و تحسُ يا راوية .. الأرضُ تحبُ من أحبها، و علقَ ذلكَ اليومَ ضاحكاً، و أنا ألاعبُ بأصابعي ثرياتِ الضوءِ المتسللة من بين أوراق الشجرِ المنعكسةِ على الماءِ في الجدولِ : لك من اسمك نصيبٌ يا غزال. أبي رجلٌ علمته الأرضَ أن يحبَ الجمالَ و يقدره، علمته أنها لا تنسى من يعتني بها و يرويها، وأنها ستُحيَّه بالذكرى ذات يومٍ كما كان حريصاً أن يحييها. أبي فلاحٌ و ابن فلاحٍ، و علمته الأرضُ و حبها  … معنى النجاح و الفلاح

وقتُ العصرِ كان أجملَ اللحظاتِ حين ينتهي العملُ بالبيارة، و نصعدُ للدورِ العلوي، و نجلسُ بالشرفةِ، و كرمةِ العنبِ عريشتنا، و يشربُ أبي قهوته بهدوءٍ شديدٍ و صمت.  كنت أعلمُ أنه بدأَ بالتفكيرِ بما ينتظرهُ من أشغالٍ، سألته ذلك اليوم، و أنا أتكأُ على طرفِ الشرفةِ التى أرى على امتدادِ البصرِ …  الباسقات من أشجارِ النخيلِ التي لا تنتهي: أبي أكملْ يومكَ بلا تفكيرٍ في المشاغلِ و أنتَ وسطَ هذا الجمال. قالَ لي بابتسامةٍ باهتة و صوتٍ مهموم: بيقولوا أصحاب العقولِ في راحة .. و طالَ صمته،ُ و فهمت في ذلكَ الوقتِ أن أصحابَ العقولِ في سعدٍ و هناء

اليومُ وبعدَ هذه السنين  الطويلةِ،ُ أسترجع كلامَ أبي،ْ و قد تشابكتْ كلُ الأمورِ و الأحداثِ كالحبلِ المعقودِ الذي ليسَ له بداية أو نهاية، و ادركُ معنى مختلفٍ لما قاله لي ذلك اليوم أن( أصحاب العقول في راحة). لقد قررَ أصحابُ العقولِ الراحةَ و أخذَ اجازةِ  طويلة و اغلاقَ أبوابِ الفهمِ و الاحساس بالمسئولية ، و ادَّعوا التعبَ أو الغباءَ طواعيةً، و فوضوا لقلةٍ من الناسِ تصريفَ أمورهم و تشكيل حياتهم، تركوا لغيرهم التعبَ، و العناء و عاشوا على الهامشِ و سيظلوا. و المشكلةُ جلها و كلها … ليست فيمن يملكُ العقلَ … بل فيمن يُسيرُ الأمور. عاشَ أبي و لا زالَ أطالَ اللهُ في عمرهِ، و باركَ في عملهِ، و أدامَ محبتهُ في القلوبِ، مشغولاً بأمورِ الصغيرِ و الكبيرِ حوله … و لد أبي كبيراً و عاشَ و لا زال كبيراً و لم يعطِ عقله الراحةَ يوماً إلا حين حين يختلي بالأرضِ معشوقتهِ و حبيبتهِ  .. تلك كانت  و لا زالت فسحةَ العقلِ الوحيدة

4 Comments اضافة لك

  1. من لم يعرف العم. . ابو جنيد.. فهو لا يعرف رجالات خانيونس…من لم يعرف هذا الرجل ..فهو لا يعرف معنى العصامية…كيف لا و هو نعم الرجل و الاب و الصديق …فقد كان صديقا لوالدي ..رحم الله والدي. .و أمد الله في عمر هذا الرجل و متعة بوافر الصحة و السعادة … الإنسان الكريم الشهم و الأب العملاق و الأنيق دوما و المحب لاسرنة وعائلته .صاحب الصوت اللطيف و الكلمات الطيبة و لذا اسمحي لي يا ست راوية …بنت القدس.. إن اهدي هذا الدعاء له: الله يبيض وجهك و يشرح صدرك و يرفع قدرك و يعلي كلمتك و يوفقك في حياتك و يقضي عنك دينك و يوسع في رزقك و يبارك لك في عمرك و يجعل محبتك في قلوب عباده و يسخر لك من تعرف و من ﻻتعرف و يجعلك مباركا في الدنيا و مغفوراً ذنبك في الآخرة و يحميك من عين الحاسدين و من نظرات الشياطين و يرزقك برزق ليس له حدود و يسخر لك كل الخلائق و يكون لك حامي من كل شر ويصلح حالك وبالك و يريح قلبك و يغفر لك كل خطيئة علمت بها أو لم تعلم بها و أسأل الله الكريم أن يعيذك من جهد البلاء و درك الشقاء و سوء القضاء و شماتة اﻷعداء كما أسأله أن يعيذك من زوال نعمته و من تحول عافيته و فجأة نقمته و جميع سخطه و أسأله أن يرضى عنك رضاً ﻻ يعقبه سخط و أسأله ألا يحرمك كل حسنة و أن يبعد عنك و يمحو كل سيئة اللهم و ارحم والدينا كما ربونا صغارا وأمواتنا و أموات المسلمين اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عنا
    هذا دعائي لك في هذه الأيام المباركة

    1. rawmak كتب:

      اللهم امين و شكرا جزيلا استاذي الفاضل

  2. رياض وادي كتب:

    فعلا نعم الاب لاتغيب عنه شارده في التفكير وبعد النظر

    1. rawmak كتب:

      فعلا نعم الاب شكرا عزيزي

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s