متجرٌ كبيرٌ مليءٌ بالبضائعِ مكتظٌ بالناسِ، و وسطَ الزحامِ و الضجيجِ، رأى الكرسي الضخمَ المنقوشَ بالزخارفِ و المطعّم َبالعاج ِالذي كان أخوهُ حامدٌ يجلسُ عليه، و قدْ علمَ أنه يديرُ تجارةً عظيمةً ملكَ زوجته درية، الفائقةَ الجمالِ الثرية. جمعهما الشوقَ والمحبةَ وأمضيا اليومَ في تذكر الأحداثِ والأحبةِ و انتبه حامدٌ فجأةً أن الوقتَ قد مضى، و أنه كانَ يجبُ العودةَ للبيتِ مبكرا. ما إنْ فتحَ حامدٌ البابَ و خطتْ قدمهُ مدخلَ البيتِ واجه إمراةً غايةً في الجمالِ و الأناقة و بصوتٍ آمرٍ يخلو من الذوقِ و اللباقة: لم تأخرتْ؟ ألم تستطعْ أن ترسلَ خاًدماً يعلمني بعودتكِ متأخراً، نظرتْ إلي قاسمٍ بنظرةٍ قاسته من رأسهِ حتى قدميه بجرأةٍ و وقاحةٍ و سألتْ: من هذا ؟ …و لم أتيتْ به إلى البيتِ .. ؟ أجابها بإضطرابٍ و تلعثمٍ شديدين: هذا أخي قاسم. قاطعتهُ بصوتٍ يملؤه الضيقُ و عدمُ الرضا: سأذهبُ إلى بيتِ أبي فقد سبقني الأولادُ إلى هناك ،و لا تنتظْر عودتي .. لا أظنُ أني سأعوُد قريباً. حضّرَ الخادمُ مائدةً ملئتْ بأصنافِ الطعام التي فقدتْ كل مذاق ،و أحسَ بالمرارةِ التي سكنت قلبَ أخيِه و حرجِه الذي لا يطاق. قال لأخيه: هذا ماُ تمنيه و سعيتُ له يا قاسم .. سلبني جمالها القلبَ ، و أغوى مالها العقلَ .. و كان َتحقيقُ الأماني إبتلاءً حمدتُ الله عليه .. فلا أكونُ بنعمةِ ربي جاحدا.
مضى في طريقهِ يتذكُر رقيةَ وملّقاها الطيبِ ولسانها العذبِ … وقال في نفسه: لله في خلقهِ شؤون. وصلَ القريةَ ،و دلّه الصبيةُ على بيتِ أخيه أيوب. قرعَ البابَ، و فتحَ البابَ فتى صغيٌر، و نظرَ إليه باستغرابٍ، و سمعَ صوتَ إمراةٍ تقولُ: اللهمِ لا تجعلْ من طرقَ البابَ ضيفاً، فليسَ من شيءٍ نطعمه. و في أقلِ من دقيقةِ تدافعَ الى البابِ أربعةُ أطفالٍ صغارٍ في ثيابٍ رثٍة و هيئةٍ خلتْ من النظافةِ ، شرحتْ ضيقَ الحالِ و قلةَ المالِ. أفسحَ الصغارُ الطريقَ لأبيهمِ الذي أسعَدهُ وأبهجَ ملامحَ وجههِ البائسةِ مرآى أخيهِ. جلسَ مع العائلةِ في فناءٍ ليسِ به سوى سجادةٍ خشنةٍ قديمةٍ، ظنها لم تغادْر تلكَ البقعةَ من الفناءِ منذُ زمنٍ بْعيدٍ ،و قدْ إهترأت أطرافها. كلما أرادَ أن يتحدثَ مع أخيهِ قاطعتهما الزوجةُ بالشكوى و شرحِ ضيقِ الحاِل وقلةِ الرزقِ وكثرةِ العيال وطلباتِهم التي لم يعْد أيوبُ يقدُرعليها. أحسَ بالضيقِ الشديدِ ،و أحزنَه حالَ أخيه و نظَر للصغارِ يحتضنُهم واحداً تلو الآخر، فسأله أخوهُ :كمْ من الأطفالِ لديكَ يا قاسم؟ فقال: ليس لديّ أطفال. أجابَ أيوبُ وزوجه معاً: خيٌر لكَ وأريحُ بالاً… فهم همٌ ..و طلباتٌ لا تتوقف ليلاً ولا نهاراً. لم يستطعْ النومَ إلا حين ترآى له طيفُ رقيةَ تقرأ ُالقرآنَ فنامَ وهو يظنُ أنه أحسنُ من إخوتهِ حالاً.
أعطى كلّ ما حمل من مالٍ لأخيهِ ليبدأَ تجارةً جديدةً علّها تغيرُ من حاله ،و إنْ شكَ أن زوجته ستكفُ عن طبعِ التذمرِ و عن ْ الشكوى. ِمضى ّفي طريقهِ مفلساً، ونزلَ على قومٍ أكارم ،أكرموهُ و أحسنوا ضيافتُه، و حانَ وقتُ صلاةِ المغربِ، وعلموا أن إمامَهم مريضٌ، و سألوهُ إن كانَ يحفظُ من القرآنِ شيئا ليؤمّهم في الصلاةِ، و قْد توسموا من طيبِ حديثهِ علمَه و خلقَه. أمّهم في صلاتّي المغربِ والعشاءِ ،و جلسَ معهم في حلقةِ ذكرٍ بعد صلاةِ العشاء. تقدمَ سيدُ القوم ِو قالَ له: لقد جئتنا هديةً من السماء. والله لكَ على كلِ درسٍ كدرسِ اليومِ ناقةً، وإن مكثتَ بينا وّعلمْتَ ولديّ القران لأزوجنّك أبنتي وذاك مهرها ولكَ اسبوعٌ وليلة ،و نحنُ بانتظاِر ردِك علينا. نامَ ليلته تملؤُه السعادةُ والرضا. وأصبحَ على وجِهِ فتاةٍ نضرٍ، حملتْ له طعامَ الإفطارِ ،و الخجلُ على وجهها الجميلِ قد بدا: لقد أرسلَ أبي هذا الطعامَ لك ويدعوكَ لتناولِ طعامَ الغذاءِ لدينا. لم يستطعْ أن يمنعَ قلبهَ من التفكيرِ في حسنها ولا في عرضِ أبيها له من الزواجِ منها. سعدَ بصحبةِ العائلةِ ،و ارتاحت نفسهُ للحديثِ معهم ،و قالَ له الرجلُ: ما سمعتُ أجملَ من تلاوتِك للقرآنِ ،و لا أنفعَ من قولِك ،و شرحكَ لعلومِ الدينِ، فو اللهِ لا أحفظُ سوى قصارَ السورِ، و لئنْ علمتنِ القرآنَ و أولادي لأشركّكَ في كل مالي ،و لأضمكَ الي أهلي و عيالي. و استطرد الرجُل و قالَ: منْ علمكَ كلُ هذا؟ نطقَ لسانهَ بكلِ عفويةٍ وبسرعٍة وقالَ: رقية.. أفاقَ على النظرةِ التي سكنتْ عينيّ الرجلِ و كستهما بالدهشةِ و التساؤلِ. قالَ الرجلُ: نعمَ المرأةُ هيّ … تكنْ من تكون.. فهيّ كنزٌ على الرجلِ أن يقدرَه ويصون. لإمرأةٍ مثلها أبقّى للمرءِ من المالِ والبنين.
نبضَ قلبه أعلى من صوتِ نقرَ أصابعهَ على الباب.. لم تفتح البابَ.. بلْ فتحتْ قلبَه الذي سألها أن تسامحَه على طولِ الغيابِ. سمعها ُبقلبهِ لا بأذنيه. رآها كما لو أنه أولَ مرةٍ.. يراها.. حسناءَ يشرقُ وجهها بالضياء، وقدْ كساهُ الشوقَ والرجاء. قالَ: إشتقت لكِ يا رقية. دخلِ البيتَ الذي سكنت جوانبه المودةَ و غشاهُ النوَر. أجابَ على السؤالِ الذي يتأرجح مع رموشِ عينيها الخجلتين: ما قراركَ؟ قالَ: وعدٌ قطعتُه على نفسي .. هو نجاتي و سعدي..يا رقية.. أنت نعمتي من اللهِ وأعظمُ هدية …
تبارك الله..رائعة اخرى هذه القصة…بالرغم من قصرها فقد استوعبت حكما كثيرة.
بوركت..وزادك الله من فضله.
انتظر المزيد
تسلمي عزيزتي و شكراً على قراءتك و زيارتك للمدونتي
عظمة علي عظمة علي الف عظمة حيث المغزى عظيم و الكلمات و العبارات و الجمل.علم و ادب رائع.و الي الامام دوما يا دكتورة الادب……
شكرا على الإطراء و يسعدني قراءتكم لمدونتي