وصلَ المدينةَ مع غروبِ الشمسِ و قد بلغَ منه التعبُ ذروته , و لكنَ العقلَ لم ينفكْ يتساءلْ: كيفَ و أينَ سيمضي ليلتَه؟ رحلَ عن بلادهِ البعيدة, و قدْ تآكلَ بنيانُ البيتِ بعدَ وفاةِ الأبِ ,و قدْ ودعَتهم أمهُم قبلهَ بسنين, و تنازعَ الميراثُ البنين, فَبِيعَ منزلٌ وَحّدهم أجمعين ,و هُدمَ دكانٌ كانَ مصدرُ رزقَهم الوحيد. لم يُجِدْ قاسمُ و حامدُ و أيوبُ صنعةً سوى البيعِ و التجارةِ. تفرقوا و ولّى كلٌ إلي وجهةٍ ينشدُ مستقراًَ و رزقا.
وقفَ في الصفِ الأولِ مع المصلين , و أعلنَت ملامحُ الأشعثُ الأغبُر أنه عن المدينةِ غريب. وَلّتْ جموعُ المصلين و إقتربَ منه إمامُ المسجدِ عبدُ المقصودِ بالترحيب , و تقصى عن حالهِ , و سببِ زيارتهِ للمدينة. غريبٌ يبحثُ عن رزقٍ, و قد استنفذَت الرحلةُ الطويلةُ كلَ ما لديه من مالٍ و زاد. وأطنبَ الغريبُ و زاد.. ليسَ لديّ مكانٌ أبيتُ فيه أو أتوارى عن أعينِ العباد. سمحَ الإمامُ لقاسمٍ أن يبيت ليلتَه في المسجدِ على أن يتدبرَ أمرَه مع الصباحِ, و أرسلَ له بعضَ الطعامِ و قليلاً من الماء.أتى النهارُ كما ولى, و لم يجدْ عملاً و لا مأوى. سألَ الإمامُ النصيحةَ بأدبٍ و رجاء.
الغدُ هو يومُ الجمعةِ , و يأتي الشيخُ موسى من القريِة القريبِة ماشياً ليصلي الجمعةَ, و هو رجلٌ كثيرُ المالِ, عالمٌ تقىٌ ,له إبنةٌ وحيدة ,إن شئتَ اخطبها. لم يغبْ السؤالُ عن بديهتِه الفذةِ و ذكائِه الواضح. سألَ قاسمٌ و إستحلفَه الأمانةَ و الصدقَ أن يصارح: و لِمَ يزوجُ الشيخُ موسى إبنتَه الوحيدةِ لغريبٍ فقير؟ أجابهُ الإمامُ إنَ رقيةَ تشربتَ من علمِ أبيها الكثيرَ تخلقَت بخلقهِ و ورثتَ من ذكائِه الكثير. جالتْ عينا قاسمٍ تستحثهُ على الإستطراد ِو الوصولِ إلى بيتِ القصيد. و لكنْ ..! تساءل قاسمٌ. ردَ الإمامُ: ولكنَ رقيةَ لمْ تمنحْ من الجمالِ نصيباً و لا قدرِ أوقية. كلُ من أرادَ خطبتَها عافَ الزواجَ منها , بالرغمِ من ثرائها و علمها.إذهبْ يا ولدي و قابِلها لربما رأيتَ منها ما يجعلكَ ترغب فيها.
قدمهَ الإمامُ للشيخِ و سألَهُ أن يوظفَهُ لديهِ , و أنْ يسكنَهُ حتى يتدبرَ أمرَه. عادَ مع الرجلِ ماشياً لم يدرِ كيفَ إنقضى الزمنُ و قد أحسَ أنَه يغوصُ في بحرٍ من العسلِ يكادُ يتذوقُ على طرفِ اللسانِ حلاوتَه , و الشيخُ يطربُ آذانَه بالقرانِ حيناً و الحديثِ حينا آخر و بالمثل.وصلَ البيتَ و نادى: يا رقيةَ.. لدينا ضيفٌ فأعدي الغذاءَ وهيئي الفراشَ للضيفِ. أكلَ كما لم يأكلْ قطْ , و ما أنْ إنتهى , في نومٍ عميقٍ غط . أيقظهُ الشيخُ لصلاةِ المغربِ و حضرَ معهُ الدرسَ, و عادوا للبيتِ بعدَ صلاةِ العشاء. إستطابَ الطعامَ , و إنتبهَ لجمالِ البيتِ و ترتيبهِ الدقيق, و بدا كما لو كانَ نائماً بدأ يفيق .قطعَ عليه الشيخُ سلسلةَ الأفكارِ و قالَ له:يا ولدي نمْ فغداً سأسلمُكَ متجراً صغيراً تديرهُ, و سأتدبرُ لك مكاناً تنامُ فيه, و أوصاهُ: يا ولدي حصنْ نفسكَ بالأذكار. فراشٌ ناعمٌ و نظيفٌ, مطرزُ بخيوطٍ من حرير. سمعَ حوارَ الشيخِ و إبنتهِ رقية و هو يسألها: ماذا حفظتِ اليومَ يا أعزَ بنية. قالتْ: أسمعكُ يا أبي … قرأت من القرآنِ, و لم يسمعْ في حياتهِ أجملَ و لا أعذبَ من تلاوتها, حتى وصلتْ إلى قوله تعالى:”وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ.” فتهدجَ صوتُها , و سألَها الشيخُ أن يكملوا مع الغدِ.ظلَ صوتُها يقرأُ و يقرأ ,و نامَ يظنُ أن الإمامَ عبدَ المقصودِ لم يصّدُقْهُ القول ,فلا يمكنُ أن تكونَ صاحبةُ هذا الصوتِ دميمةً. أمضى عندَ الشيخِ ثلاثةَ أيامٍ- كانَ يترقبُ الوقتَ بعدَ صلاةِ العشاءِ ليسمعَ تلاوةَ رقية و أسئلتِها الذكية , و يتعجبُ أنّى كل هذا العلمِ لفتاةٍ صبية- إستوفى فيهن حقَ الضيافةِ ,و آن له أنْ يغادرَ منزلَ الشيخِ, و لكنَ إكبارَه و شوقَه لرؤيِة رقية,دفعَه لخطبةِ البنية.
أتتْ تحملُ الطعامَ و بأدبٍ ردتْ السلام . لم يستطعْ قاسمُ الردَ و .. لا الكلام , لقدَ َنسيَّ الحسنُ أن يضفي عليها أيُّ مسحةٍ من جمال. لم يستطعْ أن يعاودَ النظرَ إليها, و أغلقَ قلبُه دونها الآمال. إستأذنَ بالمغادرةِ كأنما لسعتُه عقربة ,فليس في هذه الفتاةِ شيءٌ يتمناهُ و يرغبه.أتى موعدُ صلاةَ العشاءِ و إذا بالإمامٍِ يقرأ:”وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ.” فإقشعرَ بدنه,و أحسَ ببردٍ شديدٍ , غادرَ المسجدَ لسكنهِ الجديد, يركضُ فإصطدَم برجلٍ مسنٍ, كادَ قاسمُ أن يوقعَه أرضا. إعتذرَ من الرجلِ الذي فاجأَه قائلاً: ” عسى أن تكرهوا شيئاً و هو خير ٌ لكم.”فلو لم تصطدمْ بيّ لوقعتَ في تلكِ الحفرةِ هالكاً ,و لن يراكَ أحدٌ في هذا الليل, و أشارَ بيدهِ إلى مكانٍ قريبٍ جداً منها. دخلَ سكنَه الجديدِ و إذا بجارهِ يقرأُ بصوتٍ نديٍ رطبٍ نفسَ الآية. وضعَ رأسَه على الوسادةِ , و لكن صوتَ رقيةٍ تقرأُ سورةَ البقرةِ و ترددُ نفسَ الأيةِ, كانَ آخرُ ما يتذكر قبلَ أن يغوصَ في نومٍ عميق , رحمَ الفتى من شدةِ الحزنِ و الضيق.
قصة مشوقة..سانتظر الجزء الثاني بفارغ الصبر
أتمنى أن يعجيك الجزء الثاني شكراً على الزيارة.