ذهب

on

دارت في رأسها الدوائرُ، و أحست بغثيانٍ، و لكن طوفانَ الدمعِ الذي فاضَ من عينيها وهي تراقبُ الفوضى و قطعً الأثاثِ المفككةِ في غرفة نومها، اعتصرَ قلبها كعاصفةٍ هوجاءٍ قبل أن تفيقَ على صوتِ عاملِ شركةِ نقلِ الأثاث و هو يسألها: يا ست إنتي بخير؟ و أفاقت و لا زالت تغرقُ في بحرٍ من الألمِ، و لكن العاملَ أردفَ قائلاً  مبتسماً:-مرغماً إياها أن تعِ، و أن تأخذَ نفَّساً عميقاً لم يمنعً دمعها من التوقفِ- أهي دموعُ الفرحِ يا ست، و قد وجدتِ كنزاً؟ نظرت لإسورةِ الصفِ الذهب- و هي إسورة من ذهب صفت بها دنانيرُ الذهبِ واحدةً تلو الأخرى كالعقدِ، و لكنها على مقاسِ اليد- هزت رأسها بالنفيِّ و قلبها يعتصر حزناً، و ردتْ قائلةً و هي تحدثُ نفسها: من أغلى …  هي … أم الذهب؟ من أغلى … الصداقة … أم الذهب؟  نظرَ العاملُ إليها، و هزَ رأسهُ مستغرباً، و غادرَ الغرفةَ.  تنهدت و هي تعتصرُ الأسورةَ بين يديها، و أردفتُ تكلمُ نفسها: في لحظةِ اختبارٍ و اختيارٍ …. خانَ العقلُ، و القلبُ كذب … و ذهبت المحبةُ كما هانت عشرةُ العمرِ…. و الوفاءُ ذهب. جفلتْ من تلكَ اليدِ التي هبطت بحنانٍ على كتفها لتنقذها من الأسى، و التفت الى زوجها الذي هدأَ من روعها -و قد وقعت عيناه على الإسورة- قائلاً: هوني عليك  يا عائشة،  قد مضى ما مضى، سحبها خارجِ الغرفةِ الى الصالةِ التي تكدست بصناديقِ الأثاثِ، و طلبَ من العاملِ أن ينهِ عمله في فكِ سريرِ غرفة النوم.

كل ما تذكره من طفولتها و صباها ارتبط بصديقتها، و جارتها، و زميلةِ الدراسة سامية. مشيا الطريقَ معاً لكلِ الأماكن في  معسكرِ جباليا في قطاع غزة، تحفظان الأماكنَ و المساكنَ و كل من فيها ساكن. أكلتا و شربتا معاً، و تبادلتا الشطائرَ كما تبادلتا دفاترَ الواجباتِ و الكتب، و درستا  الدروس، و حلتا وظائفَ المدرسةِ معاً و طبختا معاً، وتشاركتا الثياب و الأحذية و مشط الشعر…. تشاركتا كلَ شيء كأختين و صديقتين، و كتوأمٍ لم ينقسمْ في رحم.  تقاسمتا الزمانَ و المكانَ و حتي الأماني و الأحلام بالعدلِ و الميزان .. الى أن أنهتا المرحلةَ الثانويةَ، حين تقدمَ المهندسُ حاتم ابن عمها الذي يعيش في السعوديةِ لخطبتها، فصارَ الفراقُ لزاماً و الماً لابد منه.

لم يطلْ الزمانُ و التقتا في الرياضِ مرةً أخرى، و ظنتا أنه لا فراقَ بعد اليوم، فقد تزوجت سامية من مدرسِ الرياضيات عماد. فرضتا نفسيهما ككلٍ لا ينقسمْ و ارتباطٍ لا ينفكْ أو ينفصل، و احترم الزوجان رغبتهما بالرغمِ من الفارقِ الاجتماعي و المالي الكبير بينهما. كان من الصعب أن يتشاركا  معاً  كما كانت في الماضي، و قد باتَ جلياً أن حياتهما، و قراراتهما لم تعد ملكيهما، و لكن المحبةَ و الإرتباطَ الوثيقَ في قلبيهما حفظَ تلك المسافات التي كانت تتسعُ حيناً، و تضيقُ حيناً آخر بسبب التزاماتِ و ارتباطاتِ الزوجين التي لا تتوافق في الزمان و المكان.

سكنت سامية مع أطفالها الثلاثة و زوجها في شقةٍ صغيرةٍ في حي النسيم، و بكلِ ما تعلمته من أمها و جدتها من تدبيرٍ و اقتصادٍ في بيتها … استطاعت أن تظهر دائماً في أحسنِ هيئةٍ هي و زوجها و أطفالها … الذين ما انفكوا يقارنون أنفسهم بأولادِ عائشة، و بما يلبسون و يأكلون،  و أين يسافرون، و أين يسكنون، و قد سكنت عائشةُ و حاتم في فيلا جميلة و أنيقة في حي الروضة، بجانبِ حديقةٍ جميلةٍ  حيث كانت سامية تصرُ أن يكونَ اللقاءُ الدائم بينهما في عطلة نهاية الأسبوع، حيث تُحضرُ الفطائرَ و الطعامَ في البيتِ لتجنب اللقاءِ في بيتِ أيّ منهما رفعاً للحرج. كانت عائشةُ تدركُ ذلكَ تمامً الإدراك، و احترمت رغبةَ صديقتها رغمَ امتعاضِ زوجها من الوضعِ الذي قرر أن يتغيب، و أن يتركَ لها و للأولاد -الذين ارتبطوا بعلاقة صداقةٍ و محبةٍ لأولاد سامية-هذا اللقاء الأسبوعي في الحديقة. و بعد عشر سنواتٍ من اللقاءِ و الوصلِ الذي لم ينقطع،  والهاتفِ الذي كان له وقتُ الصباحِ تتبادلان التحيات و الأماني، و قراراتٍ بنوع وجباتِ الطعام للصباح و المساء. و كان اجملُ اللقاءِ … هو أيام العيد و التحضير له، و قد اعتادتا صنعَ الكعكِ معاً،  حيث يحتفلُ اطفالهن معاً باللعب حولهما، يملؤون المكانَ بالضحكِ، و فتاتِ الكعكِ الهشِ الذي يملأُ المكانَ برائحةِ اليانسون و المحلب و الشومر.

ذلك العيدُ كان فارقاً، في حياتهما و للأبد. حين فاجأها حاتم بهديةِ العيد …. بإسورة الصف، و هي الأغلى ثمناً في أساورِ الذهب. لبستها و تغمرها السعادة و استقبلت ضيوفَ العيدِ فوجاً وراء فوج من الأقاربِ و الأحبة. و في المساءِ كان وقتُ زيارة سامية و زوجها و أولادها. أتت تحملُ لها شالاً فلسطينياً مطرزاً بخيوطِ الحرير، و هو أكثرُ ما تحب عائشة أن تلبس. و كان عماد أو من بدأَ بالسلامِ و الكلام و قال: كل عام و انتم بخير، و أردف و سامية تناول عائشة الشال: أسبوع كامل و هذا الشال بين يديها ليل و نهار علشان تخلصه يوم العيد. يسلموا ايديك سامية و الله كتير حلو، ردت عائشة و هي تفرد الشال على كتفيها. لمحت سامية الإسورة في يد صديقتها و قالت لها: ألف مبروك الإسورة حلوة كتير. ضحكتا و تحدثتا ثم أصرت عائشة أن يتناولوا العشاءَ معاً ككلِ عيد. دخلت عائشة غرفتها، و فكت الأسورة، و وضعتها على التسريحةِ، و انضمت لصديقتها في المطبخِ لتحضير العشاءَ الذي استغرق وقتاً قصيراً، و قد جهزته عائشة مسبقاً. استأذنت سامية لتصلي المغربَ قبل أن يمضِ وقته و يفوت، فأدخلتها عائشة غرفةَ نومها، حيث صلت، و غادرت الغرفة. تناولوا العشاء، و لعبَ الأطفالُ من حولهم، و ضحكوا و احتفلوا بالعيد، و غادرت سامية و زوجها و أولادها، و قلبها تملأهُ السعادةُ و الفرح.

انتهى مساءُ أولَ يومِ عيدٍ، و بالرغمِ من التعبِ و الإرهاق الشديدين، إلا أن الرضا و الفرح كانا يغمران قلبَ عائشة  .. الى أن دخلت غرفتها لتغيير ثيابها … و لم تجدْ الاسورة على التسريحة حيث وضعتها … بحثت و فتشت كل مكانٍ.. و لم تجدها. استجوبت الأطفال و هم نصفُ نيامٍ …. من أخذ الأسورةَ … من رآها؟ من دخل غرفةَ النومِ … من لعب هناك؟ أنكر الأطفال بشدةٍ ، و ذهبوا في نومٍ عميق، و بعد ذلك بدأ استجوابُ زوجها لها: أمتأكدة أنك وضعتها على التسريحة؟ أجابت : طبعاً متأكدة. و أردف: من دخلَ غرفة نومنا غيرك، و قد أنكر الأطفال ذلك؟ أجابت بنرةٍ منكسرةٍ: فقط سامية … دخلت صلت المغرب في الغرفة. قال لها: يعني ما حدا غيرها أخد الإسورة. لم يدع لها فرصة ًللنقاش أو الإنكار، بل أمرها بالاتصال بسامية، و أن تطلب منها إعادة الإسورة.

ما كادت سامية تغييرُ ثيابها و تضعُ رأسها على المخدةِ، و قد نالت من بهجةِ العيد، و فرحهِ ما تمنت، إلا و الهاتفُ يرن، و عائشةُ على الخط …. سامية اسورتي الجديدة كانت على التسريحة في غرفةِ النوم عندما دخلتي، و صليتِ المغرب، و لست اجدها الآن، و أردفت تسألها: سألت أولادي كلهم و لم يراها، أو يلمسها أحد منهم، و أكملت و زوجها يلقنها ما تقول: اسألي أولادك يمكن حدا شافها، أو أخدها بالغلط. جحظت عيناها، و أحست بنفسِّها يتحشرجُ في حلقها، و أحست أنها أصيبت بالخرس، و التفت لزوجها، و هو يضغط على كتفها مستغرباً: ايش في يا سامية؟ أفاقت … بل قفزت من سريرها الى غرفةِ الأولاد، رايحة أصحِّي الأولاد و أسألهم .. قالت لعائشةِ التي أنهت المكالمة. أنكر الأولاد و بشدةٍ، و إن اعترفوا أنهم لعبوا في كل مكانٍ في البيتِ مع أولاد عائشة. كان الاتصالُ الأخير بينهما قصيراً كإطلاقِ رصاصةٍ في القلب … انتهت بمقتل. أولادي لم يروا الإسورة و لم يأخذوها .. في الغالب هي في غرفتك .. ابحثي عنها. قالت سامية. أتاها الجواب قصيراً حين قالت عائشة: لم يدخل غرفتي أحد غيرك، أرجوك إن زوجي غاضب مني جداً، و لن يسمح لي بلقائك ثانية إن لم تعيديها لي. الإسورة  ضاعت … و كذلك صداقتهما.

كانت تعلمُ من ذلك الحينِ أن سامية تركت الرياض، و بعد عدةِ سنواتٍ غادرت السعودية، و عادت الى جباليا. نظرت الى يدها المتشنجة و التي احمرت من القبضِ على الإسورةِ التي لازالت حبيسةَ أصابعها، و بدأت تؤلمها، و هي لا تزالُ تهزُ رأسها، و تحدث نفسها: كيف فعلت ذلك…. كيف كذَّبتُ السنينَ و الأيام التي عشتها و إياها …. عرفتها كما عرفت نفسي … كيف كذَّبتها .. كيف صدَّقتُ أنها تسرقني؟ كانت سنون الفراق عذاباً احتملتهُ ساعةً بساعة .. و يوماً بيوم .. و شهراً بشهر، و هي تحسُ أنها مظلومةٌ، و أن سامية قد خانتها، و لكن العذابَ اليوم َله طعمٌ آخر… مٌر.. مرارةُ العلقمِ … الذي كانت تسمعُ عنه، و لم تذقهُ سوى اليوم، طعمُ الندمِ  …. و هي اليوم … الطاغية الظالمة التي تستحقُ  كلَ عقابٍ أيِّ عقاب.

One Comment اضافة لك

  1. أفاتار ابو كرم ابو شاويش ابو كرم ابو شاويش كتب:

    عليك الحرص قبل التخوين. …الاندفاع و الشك مع التخوين يدمران دولة منظمة و ليس فقط علاقة أفراد.. و لكن يمكن إصلاح الأمر بين الصديقتن بالاعتذار بعد الشرح ..حيث يوجد رصيد كبير من الحب…..توصية: قبل اتخاد قرار …ادرس نتائج هذا القرار…

أضف تعليق