صغيرة على حبك

كتبتُ عن البحرِ كثيراً و أنا ابنةُ الشاطيء، رسمتُ و وصفتُ زرقته و صفائه و هدوئه، و مدهُ و جزره، و استرسلتُ في تصويرِ وحشتهِ و هياجهِ، و تقلباتِ أطواره. و سألني ذاتَ مرةٍ أحدُ القراءِ لم ….. لم أكتبْ يوماً عن السباحةِ في البحرِ، و لم …… لم أصفْ الاحساسَ بالماءِ و برودتهِ ، و لم .. لم أصفْ شعوري إن تذوقتُ ملوحةَ مائه، فأجبته: لأني لا أجيدُ السباحةَ …. و كلُ ما أعرفهُ عن تلك التجربةِ، أني جلستُ في الماءِ قريباً من الشطِ حيث لعبتُ في الماءِ قليلاً طفلٍ صغير أرادت أمه أن تغسله. تذكرتُ هذا الحوارَ اليوم، و العالمُ يحتفلُ بعيدِ الأم، و قد اعتدتُ أن أكتبَ لها شيئاً أقولُ لها فيه كم أحبها، و كم أشتاقُ لها. أدركتُ و قد أبحرتُ اليومَ …. في بحرِ حبها بعد أن أصبحت أماً، و تَغّرَّب أولادي عني ،و بعدت بيننا المسافات كما بعدنا أنا و اخواتي عنها منذ عشراتِ السنين. اليومَ تذوقتُ تلك البرودةِ التي كانت تحسُ بها كعصرةٍ في القلبِ تزادد كلما زاد شوقها لنا، و أحسُ بملوحةٍ تشبه الغصةَ في الحلقِ من الحنينِ لحضنها، و عرفتُ معنى خوفها الدائمِ علينا، و قلقها الذي لا يزولُ إلا بكثرةِ الدعاءِ لله أن يحفظنا. اليومُ للحبٍ معنى آخر …… حين نصبحُ أمهات، معنى تختلفُ مفرداتهُ عن الأدبِ و الشعرِ و الانشاء، معنى نلمسهُ في القلبِ كنورِ النهارِ يملؤُ الكونَ بلا استثناء. محبةُ الأمُ تولد ُمعنا بالفطرةِ كما كل الكائناتِ، و لكن الفرقَ بين اكتسابهِا كفطرةٍ، و استحقاقهِا كتجربة معايشةٍ و معاناةٍ، كالفرقِ بين من ركبَ البحرَ، و غاصَ فيه …… و من وقفَ على الشاطئِ متفرجاً ينشدُ القصائدَ بعودةٍ المسافرين بسلام.

كبرتُ على كل الأشياءِ إلا على حبك، وكنتُ و لا زلتُ أعرفُ أني لا أحبُ أحدأً أو شيئاً أكثر مما أحبك. كبرتُ يا أمي … و لا زلتُ الصغيرةَ التي كانت تلاحقكُ من غرفةٍ لغرفةٍ خشية أن تتوه أو أن تضيع، والتي ما كان يطيبُ لها النومُ إلا على سريركِ و تحتضن قدميك، و كنتُ أظنُ و أنا طفلةٌ أنك وهبتِ الدفءَ دون بردِ الكون كله، و أنا ألتفُ حولَ قدميكِ دافئتين، و ألتحفُ بلحافكِ، و إن أدركتُ بعد وقتٍ طويلٍ من الزمانِ أن قدميكِ كانتا دافئتين مورمتين من طولِ الوقوفِ و الأشغال. لم يكنْ لديك ما نملكهُ اليومَ في بيوتنا من رفاهيةٍ و أجهزة و تكنولوجيا تسهلُ الأشغالَ و تبسطُ الأمور- و لا تنفك واحدةٌ منا تشكو المشقةَ و التعب – و أدركُ أنك البطلةُ التي كانت و لازالت تنجزُ المستحيلَ، و تحيله لكلِ لذيذٍ و طيبٍ و جميل، و أعرفُ أنك جعلتِ كل ما حولنا سهلٌ و ييسر، و وقفت وقفة الربان الصارم الصادقِ الذي لا يكل ليتأكدَ من دقةِ بوصلةِ أخلاقنا و أحوالنا، و كنتِ الحارسُ لنا على كنوزِ صبانا و عاداتنا. اليومُ عيدك، و ليس لديَّ هدية تليقُ بك، و لا توفيكِ قدرك، و أدركُ ما ينتابني من تقصيرٍ عن الوفاءِ لك بما لك عليَّ من حقٍ، أرجوك سامحيني يا أمي .

احترت ُما أهديك و أنت هديتي، و لئن سئلتُ ما أتمنى، لقلتُ قبلةً علي يدكِ أمي، و حضناً ألوذُ به من الزمانِ بين ذراعيك ، و قبلةً على خدك تسري في أنفاسي تملأ قلبي و صدري بعطرِ الرضا و الأمان، و ساعة ًمن الزمانِ أجلس الى جواركِ …. أستمعُ لك و أنت تتحدثين، و لأدركَ ما فاتني من العمرِ و السنين ، و أنا عنك بعيدة يورقني الشوقٌ و الحنين.

One Comment اضافة لك

  1. ابو كرم ابو شاويش كتب:

    يكفي و يكفي فقد أبكيتينا و ذرفنا الدموع حارة…عاشت كل الامهات و امهات فلسطين الماجدات و فتياتها..لكم كل الاحترام و التقدير.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s