
ركبَ القطارَ، و لا يزالُ يبحلقُ في التذكرةِ ليتأكد َللمرةِ العاشرةِ أو العشرين من أنه ركبَ القطارَ المطلوب ،و أن الوجهةَ القادمةَ هي المنشودة. أفاقِ كمن استيقظَ من حلمٍ طويلٍ على صوتِ الراكبِ الجالسِ الى جواره، و هو يلحظهُ للمرةِ الأولى منذ أكثرَ من ربعِ ساعةٍ من صعودهِ القطار، يا بنيَّ هل -انت بخير؟ أتاه السؤالُ كمن تلقى صفعةً على وجهه. أجابَ بعد أن أشاح َوجههُ عن العجوزِ الذي ملئتْ عينيهِ الدهشةُ و الفضول: لست أدري لقد ركبتُ هذا القطارَ مراتٍ عديدةً، ولم أصلْ الى المحطةِ التي أريدها. سأله الرجل:ألست تعرفُ الى أين تذهب؟و أردفَ أم أنكَ لا تعرفُ ما تذهبُ اليه؟ ردَ قائلاً بنبرةِ المستاءِ و المستغربِ: بل أعرفُ، و كنتُ أصلُ في الميعادِ، و ليس هناكَ من سببٍ لفشلي في الحصولِ على الوظيفة . تنهدَ العجوزُ و قالَ باسماً بنرةٍ حزينةٍ: يا بني لك رزقٌ مكتوبٌ في السماءِ و الأرضِ لا ينالهُ غيرك، و ربكَ من يسببُ الأسبابَ، و في يديكَ تذكرةُ ذهابٍ و اياب، و أنت يافعٌ و في عزِ الشباب، و إن قفلَ في وجهكَ بابٌ …. ففي هذه الأرضُ دونهُ ألفُ باب.
استيقظَ من النومِ على نقراتٍ خفيفةٍ على بابِ غرفتهِ الموصد، و صوتُ أمهِ تناديه: كمال استيقظ يا ولدي أمامك رحلةٌ طويلة. نهضَ من الفراشِ متململاً، و لكن ما إن لمحت عيناه ذلكَ الملفِ الأزرقِ القابعِ على مكتبهِ الصغير، حتى بدأَ يحسُ بأنَ القطارَ قد تحركَ بالفعل، و قدماه لا زالتا على السريرِ، و لم يغادره بعد. غسل َوجهه، و توضأ كما أصرتْ عليه أمهُ بأن يصلي صلاةَ الضحى ليباركَ الله له في نهارهِ، و ييسرَ له أموره. لا صوتٌ في المنزلِ الصغيرِ المتواضع -الذي لم يتغيرْ به أيِّ شيءٍ منذُ أربعةً و عشرين سنةٍ، و هو عمرهُ الحقيقى -فالبيوتُ أطولُ أعماراً من البشرِ، و أكثرُ صبراً على احتمالِ التغيراتِ، و إن كانت تشيخُ كما يشيخون، أو هكذا قالت الشقوقُ التي بدأت تغزو الحيطانَ، و تنحت الدهانَ -سوى صدى صوتِ أمه، و قد غادرَ أخوته الى مدارسهم. ما أن دخلَ الصالةَ الصغيرةَ المفتوحةَ على فناءِ المنزل حتى علقتْ عيناهُ على الصورةِ المعلقةِ على الحائطِ، و قد رحلَ به فكرهُ الى الحلمِ الذي رآه ليلةَ البارحة، و لدهشتهِ و حيرتهِ فقد كانَ الرجلُ المسافرُ بجوارهِ على ذلك القطار أبيه …… أبي كمال البقال. أهي رسالةٌ من أبيهِ له، أم هي تذكرةٌ له بثقل ِالمسؤؤليةِ التي تركها على كاهله، لا يعرفُ كيف يحتملها أو كيفَ ينجزها؟
غزة ليس بها قطارٌ، و المشي فيها الزاميٌ بالنسبةِ لمن لا يستطيعُ دفعَ ثمنَ توصيلةٍ بسيارةِ الأجرة-على الأقلِ حتى يصلْ لموقفِ السياراتِ بخانيونس الى غزة. لا يدري صوتَ مَنّ يعلو على صوتِ زامورِ السيارات، أم صوتِ المنادي لسياراتِ الأجرةِ، أم صوتِ الباعةِ المتجولين على عرباتٍ يجرها حصانٌ أو بغلٌ أو حمار، أم صوتِ الركابِ الذين يفاصلون الأسعارَ مع السائقين و الباعة. هنا تختلطُ كلُ الأشياء ِو الأحياء، و إن كان اعتادَ هذا المشهدَ كلَ يومٍ ، إلا أن هناكَ ما جذبَ انتباههُ اليوم. هي الصبيةٌ التي كانت تسنِّدُ ذلك الختيار، و هي تتنقلُ من من سيارةٍ لسيارةٍ تسألُ السائقَ سؤالاً من الواضحِ أنها لا تلقَ الإجابةَ المطلوبة، ثم تذهبُ لآخرَ، و لاحظَ الألمَ الذي يكسو وجهَ العجوزِ في كلِ خطوةٍ يخطوها. اقتربَ منهما، و ألقى السلامَ عليهما، و عيناه تحملان السؤالَ قبل لسانهِ: لوين رايح يا عم؟ وجه الحديثَ للعجوزِ، و قد علتْ ملامحُ الإرتياحِ وجه الصبيةِ. رد العجوزُ: لمستشفى الشفا يا بنيَّ، و ما حدا راضي يوصلنا لهناك، بدهم يوصلونا مع الركابِ لموقفِ غزة، و الله يا بني ماني قادر أمشي و عندي موعد رايح يروح عليَّ.
و للحظةٍ وجد نفسه جالساً على مقعدِ ذلك القطار، وناظرت عيناه وجهَ أبيه الباسمِ و هو يقول له:” من قدمْ السبت .. لاقى الأحد يا بنيَّ”، لم يطُل السفر، فقد قاطعهُ العجوزُ: إنت وين رايح يا بني؟ أجابه: رايح أقدم على وظيفة، و المكان قريب من مستشفى الشفا، يعني أنا و انتم رايحين نفس المكان. أدار وجهه للسائق ، الذي استوقفه قائلاً: بدك تدفع الفرق … بأوصلكم. و هكذا انتهي الحوار. ركبَ مع العجوز ابنته الصبية التي كانت ترتدي زي المدرسةِ الثانوية. قال العجوزُ و هو يمسكُ يدَ ابنتهِ الصبية: يرضى عليها عايشة كل شهر بتغيب عن المدرسة، و تاخدني للمستشفى. لم يفلتْ العجوز يد ابنته طوال الرحلة من خانيونس لغزة كأنما يخشي أن تضيعَ منه، و لكن عيناه تعلقت بما خلفَ زجاجِ شباكِ السيارة من شوارعٍ و شجرٍ و حجرٍ و بشر، و قد كانت تلوحُ على وجهه مشاعرَ الحزنِ تارةً و الإبتسامِ تارةً أخرى. أراد أن يسأله مم يشكو؟ و هل له أولاد ذكور غير عائشة؟ و لكن يدَ العجوزِ الذي جلس بينه و بين عائشة، امتدت لتمسكَ يدهُ وأجابت تساؤلاته: سافروا الشباب … الله يسهل عليهم، و ييسر لهم الدروب، ما ضل إلا أنا و الختيارة و عايشة، و و جع الكلى التي سكنتها كل الهموم و المرار و ملحِ السنين، و صار لازم أغسلها من حينٍ لحين. أردفَ العجوزُ قائلاً: يا ريت كل ذنب في حياتنا بنقدر نغسله، و نرتاح من وزره و تعبه. أفلتَ العجوزُ يدهَ، و تركهُ يتخيلُ …. ما ذنوب هذا الختيار التي توجعُ قلبه.
توقفت السيارةُ عند اشارةِ المرورِ الحمراءَ، و قرعَ زجاجَ السيارةِ فتىً لم يبلغْ العاشرةَ من عمرهِ بوجهٍ تعلوه الحمرةَ، و شفاهٍ زرقاءَ مقشفةٍ، و لكنها انفرجت على ابتسامةٍ عريضةٍ حين فتحَ السائقُ الشباكَ، و أدخلَ يدهُ التي تحملُ علبَ المناديلِ الصغيرةِ، و هو يقول: الله يسهل لك أمورك و يقضي حاجاتك اشتري مني علبة مناديل، و رَزِّقني الله يُرزقك. كان أسرعُ الركابَ في سحبِ قطعةِ النقدِ ذاتِ الخمسِ شياكل، و ناولها للصبي الذي التقطها بسرعةٍ، و قد أضاءت الاشارةُ الخضراءَ، و بدأتْ السياراتُ باطلاقِ الزامور بصوتهِ المزعج. هرولَ الصغيرُ للرصيفِ المهترءِ، و هو يقبلُ القطعةَ النقديةَ ثم يضعها في جيبهِ. فيك الخير يا بنيَّ، انت ايش اسمك؟ سأل العجوز. اسمي كمال. ضحكَ العجوزُ و قالَ : كمال ما أجملُ الإسمَ أكيد أبوك تأمل فيك الخير لما سماك هذا الإسم؟ أجابه كمال: الله يرحمه، أكيد.
أفلتَ العجوزُ يدَ عائشةَ، و أدارَ جسدهُ كلهُ، و قالَ له بحدةٍ تملؤها المرارة: الكمالُ لله وحده، و لا شيء في الدنيا بيكّمل للعبد، و لكن العدلَ أهمُ من الكمال. أصابته الدهشة التي علت ملامحَ وجهه، و هزة من رأسهِ – كمن بوغتَ على حين غرةٍ- استوقفت العجوز. أستعادَ الختيار جلستهُ، و أمسكَ يدَ عائشةَ بيده مرةً أخرى، و التي تدخلت و قالت: يا با هون عليك . قال العجوزُ الذي أحس بعيونِ الركابِ الخمسة الآخرين في سيارةِ المرسيدسِ القديمةِ الصفراء: العدلُ أولى من الكمال، العدلُ في الحبِ و العطاءِ يذكرك أن لنفسك عليك حقٌ كما لأهلكِ و أحبتكِ حق، فابقِ لك من صحتكَ و مالكَ ما يكفيكَ ذلَ السؤال، و كسرةَ عزةِ النفس، تنهد تنهيدةً طويلةً يملؤها الأسى، و أردف قائلاً: و كمان العدلُ في السعي للدنيا و نعيمها، ما تسرقَ منك نصيبكَ من الآخرةِ بشغلِ عمركَ بهمومها و نوائبها، فتنسيك القناعةَ و الرضا و طيبَ العيش و إن زهد.
مضت العشرُ دقائق َ التالية الى أن توقفت السيارةُ أمامَ مدخلِ العياداتِ الخارجيةِ لمستشفى الشفا في صمتٍ مطبق، و لم يقطعه سوى صوت السائق: يالله يا عم الله يشفيك وصلنا. فتحَ كمالُ البابَ ،و أفسحَ الطريقَ للعجوزِ الذي نزلَ، و ثم تبعته عائشة. الله يكتبْ لك الخير يا بنيِّ، ما حدا بيعرف الخير وين إلا الله، قال الختيارُ، و هو يودع كمال. عادَ و دخلَ السيارةَ، و قد علتْ علاماتُ الاستفهامِ وجهَ السائقِ الذي قالَ: وين رايح انت مش نازل معاهم؟ قال له كمال: لا بس كنت بدي أوصلهم، اطلع ع الموقف لو سمحت. علت علاماتُ الرضا و الإستحسانِ وجوهَ الركاب.
أمتلات الصالةُ بالشبابِ، و بصوتهم الهادرِ كموجِ بحرِ غزةَ الصاخبِ، منهم من ينكت، و منهم من يشكو، و منهم من يدعو و يبتهل. كلهم يحملون نفسَ الملفِ الأزرقِ الذي يحمله بشهادة بكالوريوس الهندسة المدنيةِ ،و لكن الفرقَ يكمنُ في عدد ِالأوراقِ الموجودةِ في الملف و نوع التخصصِ. أمامه نهارٌ طويلٌ ليأتي دوره، و يدركُ كما كل الموجودين أن الأمرَ يشبهُ اليانصيب ، و لا أحدَ يعلمُ من له في الوظيفةِ اليومَ رزقٌ و نصيب. أخرجه من طولِ شرودهِ قولُ أحدِ الشبان: زهقت من زن أمي و أبوي كل يوم، و هم بيذكروني بدم قلبهم اللي صرفوه عليَّ ليعلموني، و أنهم زهقوا من شوفتي عواطلي، و من إمي اللي كل يوم يتذكرني بابن فلان و علان اللي بعمري و تجوزوا و خلفوا صبيان و بنات، يا رب تفرجها علينا . أمَّنَ الجميعُ بصوتٍ يؤكدُ أحساسهم و مشاركتهم نفسَ المعاناةِ: آمين. استعادَ كلام َالختيار و هو يقولُ :العدل أولى من الكمال، العدل في الحب و العطاء يذكرك أن لنفسك عليك حق كما لأهلك و أحبتك حق، فابق لك من صحتك و مالك ما يكفيك ذلَ السؤالِ، و كسرةَ عزةِ النفس، و كمان العدل في السعي للدنيا و نعيمها و طولِ اغوائها، أن لا تسرقَ منك نصيبك من الآخرةِ بشغل ِعمرك و صحتك بهمومها و نوائبها فتنسيك القناعةَ و الرضا و طيبَ العيش. أفاقَ كمن تذكرَ أنه يملكُ الحلَ . نهضَ مسرعاً مغادراً القاعة و علقَ أحدُ الشبابِ: و الله اللي بيشوفك بيقول إنك لقيت كنز. غادر، و على وجههِ علاماتُ الرضا.
ما إن فتحَ البابَ حتى أتت أمهُ مهرولةً من المطبخِ، و قالت: خير يا مه ليش رجعت بدري، ايش صار، انت بخير، فيك إشي؟ ألقى الملفَ الأزرقَ علي كرسي القش الذي جلسَ وسط فناء البيت لم يغادره منذ صغره، و كان مجلسه لتسعةِ شهورٍ مضت منذ تخرجهِ، و ترآى له وجه أبيه و هو يخاطبه لآخرِ مرةٍ قبلَ ثلاثة شهورٍ من وفاتهِ، و هو يقول له:” و الله هادا الكرسي زهق من قعدتك عليه، يا بنيَّ شوف لك شغلانة لحد ما الله يفتح عليك و تحصل الوظيفة، يا بنيَّ الحركة فيها بركة”. و أمسك بيد إمه بحنانٍ و قال لها: لقد وجدت طريقي يا أمي. نظرت إليه باستغرابٍ، و لوحت بيديها اللتين ارتخيتا على جانبيها، و هزت رأسها يميناً و شمالاً. و قبلَ أن تنطقَ بكلمةٍ أخرى سألها: أمي أين مفتاح دكان أبي؟ نظرت أمهُ بعينين مغروقتين بدمعِ المحبِ المشفق ِالى الغرفة التي سكنت زاويةَ البيتِ، و لها مخرجٌ على الشارع، و قالت بحنانٍ : ايش ناوي تعمل يا كمال؟ قال لها : نويت العدل يا أمي.. نويت الرضا و الباقي على الله.