حين كنا صغارا (3)

العلم في الصغر كالنقش في الحجر، هكذا قال المثل الذي كتب بخط الرقعة على لوح الفلين المعلق على حائط الصف الرابع الإبتدائي. افتتحت مدرستى ربيحة الحصة الأولى من اليوم الدراسي الأول بتذكيرنا بأهمية العلم و تأتيره على كل منا، و قالت و هي تنهي الحديث: العلم يفتح الآفاق و يحقق الأماني” و أدارت ظهرها للسبورة، و كنت أظن أنها سترسم خريطة أو أن تترجم ما قالت، و لكنها كتبت عنوان الدرس الأول و قالت حين أدارت وجهها الينا افتحوا الكتاب صفحة رقم خمسة عشرة. ما معنى الآفاق يا أبلة ربيحة؟ كان سؤالي الذي لم يفاجئها و أجابت قائلة : الطرق الواسعة على مرآى العين. و قبل أن تفتح كتاب اللغة العربية الذي بين يديها عاودت السؤال: هل الأماني تتحقق؟ أجابت و هي تومئء برأسها ببطءِ، و تغمز بإحدى عينيها: إن شاء الله. انتهت الحصة، و انتهت السنة الدراسية ، و كثيرٌ من السنين بعدها، و قد كنت أؤمن و لا زلت أن العلم هو سلاح الأمم، و أن العلم بحرٌ لا ينضب، و أنه الهدف و الوسيلة معاً للنجاح، و كنت أستحضر قول نيوتن:”ما نعرفه هو قطرة ماء، و ما نجهله هو المحيط.”

لكن السؤال الذي يراودني الآن و قد تغيرت مناهج و نظريات العلم بما يتوافق مع التطور التكنلوجي الهائل : هل العلم بمعنى المعرفة و الإدراك ما ينقش شخصيتنا أم هو تأثير المعرفة على سلوكنا،أم هي ارتباط االذكريات بأثر الأحداث علينا بالسلب أو الإيجاب، و تمحور المهارات حول ما ارتبط بحواسنا من ممارسات، فنصبح ما نحن عليه لا ما تمنينا أن نكونه. قرأت بالأمس قولاً لعالم النفس و الفيلسوف السويسري جان بياجيه قوله:”الهدف الرئيسي من التعليم هو خلق الناس القادرين على القيام بأشياء جديدة، و ليس مجرد تكرار ما فعلته الأجيال الأخرى.” فانتابني الفضول و التساؤل الذي كان و مازال يحركني و يشوقني للمعرفة والتعلم- هل تغير الأساليب العلمية في التدريس التي تعتمد على المشاركة والبحث عن المعلومة و تفعيلها في تطبيق مواضيع و مشاريع صغيرة غيرت من كم استيعاب الطالب للمعلومات و تساعده على تكوين و رسم ملامح شخصيته بدون تأثير و مساعدة المعلم و المدرسة و البيت؟ من المؤكد أن لكل جيل صفات يكتسبها بفعل المحيط حوله من وسائل التعلم و كيفية تلقيها و وسائل تطبيقها، و لكني لا زلت أراهن أن العلاقات الإجتماعية هي الأكثر تأثير على الفرد و تكوينه.

ما الذي يٌنقش فينا و يحدد ملامحنا، و يرسم شخصيتنا التي يراها الآخرون؟ ؟ أهو العلم و عدد الشهادات التي نحملها، أم هي تجاربنا الحلوة كانت أم مرة منها .. و تلك الصعبة أم السهلة التي تركت تلك النقوش و النتوءات هنا و هناك في قلوبنا. أهي ما اكتسبناه من ثقة و احساس بالأمان من الأحبة الذين لا زلنا بحتفظ بحبهم و احترامهم لنا أم ممن خسرناهم على الدروب التي تقطعت هنا و هناك، أم هي كم الإنجازات التي شاركنا فيها لخدمة أوطاننا و الناس أم ما عجزنا عن تحقيقه لأنفسنا قبل الآخرين؟

لطالما تفكرت في البستان يُسقى ورده من ماء واحد ، و الحوض بذره من نوع واحد، و شمس النهار هي لا غيرها من تضيء النهارات و الليل و قمره و نفس النجوم تسكنه، ينبت كلٌ على شكل لا يشبه من يجاوره، يورق بعضه بورقٍ أكثر أو أقل ، و يزهر ورده رياناً أو ناعسٍاً ، وبعضه يعانق الفضا طولاً ، و آخر يتقوقع يختبأ في الظل. لكل كائن حي بصمة لا تتكرر. و لكنا حين كنا صغارا كعجينة الصلصال التي تنتظر الأيادي التي تشكلها .. كنا نحتاج من يحبنا كثيرا حتى نتعلم الحب، نحتاج من يجعلنا نحب العلم لنرغب في التعلم و نحتاج من يشاركنا لأن ما يشكلنا هو قدرتنا أن نشارك و نتشارك لأن هذا يعلمنا العطاء و الوفاء. لا زلت أذكر ….. و الذكريات كانت القلم الذي كتبني و يكتبني كل مدرسيَّ الذين علموني أن أحب العلم، و أحب نفسي، و أن أتصالح مع كل من حولي من الأحياء و الكائنات على حد السواء…… أذكرهم و أشكرهم و أدعو لهم .

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s