
أتيتُ إليهما يملؤني الشوقُ بقدرِما يوجعني احساسي بالذنبِ، و قد احتملتُ غيابهم عن عيني السنين، ظننت أن رؤياهم، و تقبيلَ يديهما سيخففُ من شعوري بالعقوقِ، و احساسي العميق بنكرانِ فضلهما عليَّ بعد كلِ هذه السنين .. و لكن زيارتي لوالديَّ بعد غيابِ سنين لم تشفِ من قلبي جراحهُ، و لم تخفف من احساسي بأني لم أنصفهما الحقَ يوماً.
رحلتي الى غزة كان لها نصيبٌ من الحلاوةِ كما لها نصيبٌ من المشقةِ، فبعد غيابٍ لعشرةِ سنواتٍ … ذهبتُ أبحثُ عن قلبي الذي ضلت بوصلته الطريقَ في مهمةِ البحثِ عن الذاتِ و السعادةِ في غربةٍ كانت قدراً قد كتبَ لي…. طفت فيها بقاعِ الله الواسعةِ. عدت الي غزة و كأني تلكَ الطفلةُ الصغيرةُ التي لا زالت تعلقُ بضفائرها رائحةُ زهرِ الليمونِ، عدت الصبية التي لا زالت أصابعها محناةٍ بخضرةِ أوراق الزعترِ، و ذيلِ ثوبها يجرُ بقايا الصفرِ من زهرِ البابونج وعطره المنثور في الحقولِ. عدتُ أبحث في عينيَّ أبي عن مزارعِ البرتقالِ و الزيتونِ التي طالما قلمنا أشجارها، و عدلنا مسارَ جداولِ مياهها. أقبلتُ اليه أقبلُ يديهِ الطاهرتين، وقد ضمرتا …. و برز العظمُ منها … و هما اللتين طالما كانتا في ذاكرتي يدا بطلِ الأبطالِ، و قد سكنني الإيمانُ و لا زالَ أن ما يستطيع أبي … و ما استطاع أن يصنعهُ … لا ينجزهُ سوى أقوى الرجالِ و أعظمهم. عدتُ لأستعيدَ روحي في عينيه، و أدركُ أن الذكرياتَ التي كانت تدور في حواراتنا كأنها الأمسُ القريبِ .. كانت كالنجومِ التي عادت أخيراً الى دروبها و انتظمت في مداراتِ أفلاكها بعدَ طول تيه و ضياع، ذكرياتٌ أسعدتنا و أبكتنا، و لكنها أحاطتنا بكثيرٍ من الحبِ و الأملِ الذي كنت أفتقدهُ لسنين .. لقد كنت أفتقدك يا أبي كثيراً كثيرا.
عدتُ الى حضنِ أمي لأدركَ أني كنتُ قد تركتُ قلبي معها، و أنَّي لم أستعدْ نبضي …. إلا … و أنا في حضنها. بكيتُ و ضحكتُ و نمتُ و صحيتُ، و أحسستُ في كلِ لحظةٍ و أنا بقربها … أني أملكُ الكونَ بما فيه، و لا ينازعني في سعادتي أيُّ شيء. لم يعد للزمنِ من عمرٍ أحصيهِ، لم أعرفْ الفرقَ بين ….يومٍ أو وقتٍ أو لحظةٍ ……. عمرٌ لا أستطيعُ تقديرَ قيمتهِ … بقياسِ الزمنِ الذي كنتُ أعرفه. عدتُ لأصححَ كلَ ما تعلمتهُ من حقائقٍ حولَ العلمِ و التاريخِ و الحب.
عدتُ الى غزة … الي وطني … الى فلسطين الى حضنِ أبي و أمي، تعلمت معنى آخر للجاذبية و عرفت معنى التوازن … فالأرضُ التي أقفُ عليها أصلبُ طولي، و تحفظُ توازني و تشدُ ظهري، ليست إلا حضنُ أبي، و رأيت بقلبِ المحبِ الصادقِ …. أن الشمسَ التي تشرقُ في السماءِ، و تنزلُ الى الأرضِ من عليائها لتشرقَ كل صباحٍ هي وجهُ أمي، و أن الكونَ…. و إن رحبَ لا يقارنُ بسعةِ حضنها الحنون، و لا يوازي أيُّ علمٍ أو مالٍ ما يمنحني اياه رضاها. عدت لأعلنَ للكونِ أنَّي بدون رضا أبي و أمي ….. أنِّي جاهلٌ و أمِّي، و أن حبهما لا يوازيه في الدنيا حب، و أن امتلكت منها الغالي و الصعب، أني و إن عدتُ اليهما بعد طولِ الغياب … فلم أجد منهما أيُّ لومٌ أو عتاب.
ما قللَ من شوقي إليهما رحلتي التي دامت لأيامٍ … بل زادَ اليهما الحنين، و تعلقَ القلبُ بهما أكثر و أكثر . أصحو كلَ يومٍ أسافرُ بقلبي أبحثُ عنهما في كلِ زاوية ٍ…. لأدركَ أن الرحلةَ لم تكن لغزة بل كانت الى قلبي حيث يسكنون، و أن قلبي بحبهما دائماٌ سيبقى مرهون . ليتَ اللسانَ يفصحُ عن ما في القلب من شجونٍ، وعن ما به من شوقٍ مكنون، و إني لأظنهُ إن قُدرَ له الكلامُ … لقالَ لكم: اذهبوا حيث أباؤكم يسكنون، و أدركوا من رضاهم … مراهمَ لجراحكم، و بركةً لأعماركم … و طيباً لعيشكم. و قولوا لهم: سامحونا على التقصير.
وجودك لملم الكل المتناثر…واعاد البوصلة الى مسارها من جديد