عُمْر القلوب

القلوبُ ليست خزائناً تفتحها وقتَ تشاءُ، وتغلقها متى انتهيت، و تعيدُ ترتيبها متى رغبت، أو أنك تستطيعَ التخلصَ من القديمَ مما تحويها من ثيابٍ أو كتبٍ أو ورق أو أحذية، أو أيَّ شيءٍ حرصتَ أن  تحافظَ عليه فلا تتركه مكشفاً ….  أو أردت أن تخفيه فلا يصبحُ مرئياً. ليتها كانت خزائناً لكنا نعرف متى امتلأت ….. فكنا نكف عن حشرِ أحزاننا و همومنا و حتى آمالنا على أرفف الانتظار، ليت قلوبنا كانت خزائناً لكنا عرفنا أن أقفالها تصدأُ، و أبوابها تتشققُ مع الوقت، وأرففها تهوي من ثقلِ الأملِ بالدنيا و ما فيها.

قالوا تشيخُ الأجساد و تبقى القلوبُ شبابا….. أخطأوا … و قالوا ما قالوا في لحظاتِ الفرحِ التي ما أسرعُ أن تولي هاربةً من أيامنا التي لم نعد نستطيعُ عدها …. و هي كالخيلِ الجافلةِ تركضُ أسرعَ من نبضِ قلوبِ الذين يريدون للوقتِ أن يطولَ، و تعاندهم الأماني، و توقظهم قائلةً: ولى النهار ُو قمرُ الليل آذنَ على الحلولِ .و لبعضهم يأتي النهارُ طويلاً كصحراءِ الربعِ الخالي  … ترددُ فيها صوتك: ألا يا شمسَ النهارِ غيبي و إتينيِ بما أردت، و أرني منكِ حظي و نصيبي… فيأتيك ليلٌ كموجِ البحر أرخى سدولهُ … شكاه قبلك إمرؤ القيس فليسَ لهُ و لا لكَ من مجيبِ، فيمسي  كلُ المنى ساعةَ من النومِ تريحُ النفسَ من الانتظارِ المريب. و في زمننا تشيبُ القلوبُ في أجسادِ الأطفالِ الذين يقرصُ البرد أطرافهم كالعقاربِ، و يقرضُ الجوعَ أجسادهم كالقوارضِ، و تشققُ شفاههمَ المزرقةِ من كثرة النداء أن ارحموا ضعفنا و لامغيثٍ و لا مجيب. تشيخُ قلوبُ الأمهاتِ اللاتي ربينَ أولادهن صغاراّ .. كما اتكئوا وسائدهم في أرحامهنَ من قبل أن يروا نور الشمسِ… فأوهنوا منهن القلب و البدن، و ما إن كبروا قطعوا أرحامهم، و مزقوا في قلوبهن الشرايينَ حين مزقوا بعضهم كوحوشِ الغاب. نعم تهرمُ و تتآكلُ القلوبُ من مدِ و جزرِ المشاعرِ، و قد غيرَ الوقتُ معاني المفرداتِ، و هربت من القواميسِ و المعاجمِ الدارِجةِ الواضحِ من الكلمات، فلبست حللَ الطلاسمِ و غريبِ الترجمات،  فلا الحبيبُ يحسُ بالوجعِ، و لا صديقُ يفهم الضيقَ، و لا الأخُ يلتمسُ لأخيهِ العذرَ، و لا الجارُ يأمنُ جاره، و الرجل ساكنٌ في بيته لا يأمن من الغريبِ دارهُ، و في يدِ كلُ فردٍ من أهلِ بيته دخيلٌ يسكنُّه و يسيَّره.ليس من بابِ التشاؤمِ، و لا من بابِ اليأسِ أقول لكم: ارحموا قلوبكم قبلَ أن تشيخَ، و لكن من بابِ التذكرةِ، و للأسفِ الذكرى لا تنفعُ إلا من بحثَ عنها… لا من قدمت له مجاناً، فزمنُ الحبِ و الصدقِ المجاني ولى، وصدقَ على حالِ وقتنا المثلُ القائلُ:” النصيحةُ بجمل”.

تشيخُ القلوبُ الخاليةُ بانتظارِ من يملؤها بالحبِ و الأملِ، و تشيخُ أخرى بكثرةِ ما فيها من العجزِ و القهرِ و الكسل، و ليست الشيخوخةُ بعمرِالأيامِ و لا بطولِ السنينِ…. بل بقدرةِ القلوبِ على التكيفِ، و قدرتها على الصبرِ-على ما في وقتنا من ابتلاءٍ و امتحانٍ لإيماننا- الذي ليس أصعبَ منهُ امتحان. و يحضرني قولُ الله تعالى في سورةِ لقمان و هو يعظُ ابنه:” يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ ۖ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ” (17)

6 Comments اضافة لك

  1. ابو كرم ابو شاويش كتب:

    ..صبر جميل و الله المستعان…
    غض الطرف و سامح لتعيش حياة طيبة..
    ..كل الاحترام و التقدير و الشكر لهذة الريشة التي رسمت فاكتور الواقع و هذا القلم الدي ابدع فعبر و اقنع..يدوم عزك..

  2. ابو كرم ابو شاويش كتب:

    رسمت فحاكت الواقع

  3. aisha alsayeh كتب:

    من اروع ما قرأت
    اشكرك

    ‫أُرسلت من الـ iPhone‬

    1. rawmak كتب:

      تسلمي عزيزتي

  4. رياض وادي كتب:

    فانها لاتعمي الأبصار ولكنها تعمي القلوب التي في الصدور

  5. رياض وادي كتب:

    فانها لاتعمي الأبصار ولكن تعمي القلوب التي في الصدور

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s