
وسط الضحكِ و بين الحواراتِ التي لا تنتهي علقت احدى الجاراتِ قائلةً: و الله يا رباب ما ناقصك غير جاجة واحدة و ينطبق عليك قول الشاعر بشار ابن برد: رباب ربة البيت تصب الخل في الزيت لها سبع دجاجات و ديك حسن الصوت. ضحكن جميعا، و أكملن الصبحية، و غادرت كلُ منهن لتلحقَ اعداد وجبة الغداء قبل عودةِ الأزواج الى البيت. ظل بيتُ الشعرِ يصدحُ صداهُ في رأسها، و هي تراقب دجاجاتها الست و الديك أبو العُرَّيف- كما أسموه أهل القرية- من شباك المطبخ المقابل لحظيرةِ الدواجنِ الصغيرة.
ما إن انتهى الزوجُ من بلعِ آخرِ لقمةٍ… حتى قالت له رباب: يا أبو محمد بدي تشتري لنا جاجة .. بكرة. نظر إليها مستغرباً و علق: ليش ايش صار للجاجات الست اللي عنا. ردت: و لا اشي بس بدي الجاجة السابعة. نظر إليها و في عينيه بريق التعجب و الترقب و أردف ساخراً: خير ايش صار في الصبحية ِاليوم ….. ها … خبري يا ست رباب. هو بيت الشعر، و أحبه و لا ينقصني سوى جاجة واحدة و ينطبق عليَّ قول ابن برد …. زي ما حكوا جاراتي. كان يعرف يقيناً كيف يبدأ الحوار بعد كل صبحية، و كيف ينتهي ….. حسبَّها جيداً، و قال في نفسه لأختصر الحوار، و اشتري الجاجة،، و أريح راسي، قال لها : حاضر يا ست رباب.
عاد للبيت و تحت ابطه دجاجة و باليد الآخرى كيس به خيار و بندورة و فلفل أخضر. و قبل أن ينبس ببنتِ شفةٍ … أسرعت و سحبت الدجاجة ،و هي تتفحصها بدقةٍ من طرفِ منقارها …. حتي أظفارها، و قد بدت ملامحُ السعادةِ و الرضا على وجهها. قال لها: ان شاء الله مبسوطة يا ست رباب ؟ و قالت له و قد انفرجت أساريرها: و الله أبو العُريف حينبسط عليها أكثر. أسرعت رباب هي تكركر ضحكاً لتطلق للدجاجة العنان بعد أن فتحت باب الحظيرة، و قد بدأت تختلس النظر لأبو العرِّيف الجالس على منبره فوق سطح الحظيرة الخشبية.
صغيرة و حسناء …. رشيقة الخطوات و ملونة الريش …. تفحصها جيداً …. كأنه لم ير دجاجاً من قبل، و هز رأسه استحساناً. نزل بتؤدةٍ و غرور ليرحب بالحسناء الجديدة التي تنتبه لوجوده، و لا لجناحيه الطوال الملونتين، و هو يفردها للمرة الثلاثة ذهابا و اياباً أمامها….. كل ما لفت انتباهها الدجاجات الست المكتنزات بالدهن اللاتي بدأن بالدوران حول أبو العُرِّيف باعجابٍ …. كأنهن في حلقةٍ من الزار. نظرت اليهن بتعجبِ من لم يستطع فهمَ ما يدور.. و نظرَ أبو العريف للدجاجاتِ بغضبٍ و ازدراء، و نظرَ للقادمةِ الجديدةِ بغيظٍ يشوبه ُالإعجاب .
أتت ربابُ بالطعامِ ، و ملأت الصحنَ بالحبوبِ، و سكبت الماء في الإناء، و غادرت. هرولت الدجاجة الصغيرة تتقدم باتجاهِ صحنِ الحبوب، و لكنها فوجئت بالدجاجاتِ الست، و قد قطعن عليها الطريقَ، و اصطففن أمامها كأنهن سورُِ الصينِ العظيم . وفي نفس الوقتِ نزلَ الديك أبو العريف من عليائهِ يتبخر، و بدأ يتناولِ الحبوبِ بهدوءٍ، و هو يرقب الدجاجةَ التي كانت تبحلق به تارةً، و بالدجاجات الست تارةً آخرى… لا تفهم ترجمةَ ما ترى. و ما إن انتهى من الطعام غادرَ الساحةَ ليعتلي الصناديقَ الحشبية، و يجلس على منبره، حتى تقافزت الدجاجاتُ الى صحن الحبوب يلتهمن ما به. ،لم تستطعْ الدجاجة ُالشابة منافستهن، و لا الاقتراب من الصحن، و قد أخذن بركلها كلما اقتربت من الصحنِ إلا بعد أن شبعن، و افسحن لها الطريق لإلتقاطِ بضعِ حباتٍ لم يكنَ كافياتٍ ليسكنَ جوعها. و غربت الشمس، و نام أهل البيت، و أهل الحظيرة.
صباح يوم جديد اسرعت فيه رباب تتفقد دجاجاتها، و تضع الطعام لهن، و اتجهت لمرقدِ الدجاجات، و جمعت الست بيضات، و غادرت و هي ترقب الدجاجةَ الشابةَ بعينِ الريبة. اسرعت الشابة لتناولِ .. الطعام فمنعتها الدجاجات من الوصولِ، و لكن أبو العريف الذي بدأ يأكلُ الحبوب، و يراقبُ ما يحدث … أراد لها أن تأتي، و أن تشاركهُ الطعام، فرفع رأسه و صاح صيحة ًغاضبةً جعلت الدجاجة اليافعة تفرُ من بين الدحاجاتِ اللاتي بحلقن في أبو العريف كأنهن ينتظرن منه أمراً، و قد ثارت شكوكُ الغيرةِ في صدورهن المترهلة بالدهنِ. اقتربت الصغيرة، وقد أخذ منها الجوع مأخذه، فدفعت أبو العريف في طريقها … حتى كادت توقعه. لم يكن غضبه و كبرياؤه ما دفعه لركلها …. بل التساؤل و الشك الذي ملأ عيونَ الدجاجاتِ العتيقات، و هن ينتظرن ردةَ فعله. مهما تكن … و برغم منزلتها في قلبه …. كانت هيبتهُ و طقوسُ الحظيرةِ … أهم و أجدر أن تبقى كما هي.
و حدث ما لم يتخيل ْحدوثه، و لم يرغبْ للحظةٍ أن يحدث. انقضت الدجاجاتُ الست بكل قوةٍ و عنفٍ، و بدأن بنقرِ الدجاجةَ الصغيرة، و نتف ريشها و فقأ عينيها. وصل الصياحُ لسكانِ … البيت فأسرعت ربابُ لتخليصِ الدجاجة، و أسرعَ أبو محمد بذبحها قبل أن تلفظ َالرمقَ الأخيرَ من أنفاسها. أفاق الديك من الصدمةِ، و قد فقدَ الرغبةَ في كل شيءٍ في الحظيرةِ من الطعامِ و الشرابِ و الدجاجِ …و حتى الصياح. لم يعدْ ينزل من على سطحِ الحظيرة إلا لياكلَ الطعامَ على عجالةٍ و بلا شهية. و مضت ثلاثةُ أيامٍ … و فقدت الدجاجاتُ الأملَ في عودةِ أبو العُرِّيف لسابقِ عهدهِ، و قد استنفذنَ كل ما لديهن من وسائلِ الاغراء و الاغواء، و كما يأست ربابُ و زوجها أبو محمد من تناولِ البيضِ الطازج ِعلى مائدةِ الإفطار.
وضعت ربابُ الطعامَ في الوعاء و انصرفت، و نزلَ أبو العُِّريف من عليائهِ ليأكل، و لكنه فوجيءَ بالدجاجاتِ يسبقنه للوعاءِ … بل و يدفعنه بعيداً و بهدوءٍ بأجنحتهن. غضبَ كما لم يغضبْ من قبل، و خاطبَ نفسه : يا لهن من مجرماتٍ و غبيات.. و اندفع بقوةٍ وبدأ يضربهنَ بجناحيهِ تارةً …. و يركلهنَ بقدمهِ مرةً أخرى. توقفن فجأةً ….. و نظرنَ إليه نظرةً مبهمةً ….ثم تبادلن النظرَ مع بعضهن، و قد امتلأت أعينهن بالإزدراءِ و الغضب . ثواني و انقضضنَ عليه كالجوارحِ … نتفنَ ريشهُ، و قضمنَ عرفهُ، و كسرنَ قوائمه، و بدأ دمه ينزفُ من رقبتهِ، و لم ينقذهُ منهن سوى رباب التي كانت تستنجدُ بزوجها لإنقاذِ الديك المسكين الذي لم يكن لجراحهِ من علاجٍ … سوى سكين أبو محمد …. الذي سمى ثم كبر … ثم ذبحه، و هو يتحسّبَنْ على رباب ….. و على بيتِ الشعر … الذي قتلَ الديك، و خربَ الحظيرة، و لم يتوقفْ عن الكلامِ … إلا حين طالعَ تلكَ النظرةِ الغامضةِ في عينيِّ رباب… شبه المغمضتين من شدةِ الغضبِ … و التي أشاحت بوجهها الى الدجاجات- اللاتي مضينَ يتقافزنَ في فناءِ الحظيرةِ …. كأنَ شيئاً لم يكن-.
زعيم وشعب وشباب وكله في مهب الريح
جميله جدا ولون جديد جمعت بين الفكاهة وجميل الحكاية والوصف. الحمد لله انك خرجتَ من جو الحزن
الي بيرد على الناس بيتعب