حين كنا صغاراً(1)

شجرة ُالكينيا العتيقة ُالتي كانت تسكنُ فناءَ مدرستي الابتدائية كانت ملهمتي، فقد أحببتُ تلكَ النغمات التي يُحدثها ورقها الراقصِ على أثيرِ النسيم،  و التي كانت ترسمُ الألحانَ للعصافيرِ التي ما انفكت ترددُ سيمفونيتها برغمِ الضجيجِ الذي كانت تصدرهُ التلميذاتُ في ساحةِ المدرسةِ الرملية . كانت شجرتي هي الأكبرُ من بين كل شجيراتِ الساحةِ … كأنها القائدُ و الأمُ لهن. كنتُ أتقافزُ من نقطةِ ضوءٍ لأخرى كلما تحركت الأغصانُ، و نثرتْ دنانيرَ الضوءِ على الأرض، كنت أسابق الوقتَ و الزمنَ لأجمعَ ذلكَ الذهبِ قبل أن يسرقهُ الظلُ من يدايَّ أو قدمايَّ اللتان كانتا ترقصان مع كلِ لمحةِ ضوء. سافرت كثيراً و رأيت من الشجرِ الكثيرِ، و لكن ولائي لشجرةِ الكينيا تلك لم يقلْ يوماً. قارنتُ جمالها بكلِ الشجرِ الذي رأيته لسنينٍ … فلم أرَ أجملَ منها خضرةً و لا أوفرَ ظلاً و لا أطولَ قامة، فلا زالت القائدَ لكلِ الشجرِ و الأمَ لهن جميعاً.

 كان فصلي هو أقرب الفصولِِ لساحة المدرسة، و كان جاراً لشجرةِ الكينيا  التي تشعبت أغصانها، و تسلقت سقفَ الفصلِ. كانت موسيقى العصافيرِ تملأُ الفصلَ كأننا في قاعةِ أوبرا، و لا زلتُ أذكرُ كم كانَ صعبٌ أن أستمعَ لمدرستي بانتباهٍ في الأسبوعِ الأولِ من الدراسة، و لكني مع الوقتِ اعتدت أن أسمعَ  صدى هذه الموسيقى  في قلبي، و استطعت التركيزَ على الدرسِ. و في يومٍ ما و نحن في حصةِ اللغة العربيةِ، و بينما كانت مدرستنا ربيحة تكتبُ لنا النشيدَ على السبورةِ، و تشرحُ معاني الكلماتِ فيها، وقعَ عصفورٌ صغيرٌ من بين فتحاتِ القرميدِ المكسَّرِ في سقفِ الفصل على الأرضِ، التقطته و قلَّبته بين يديها بحنانٍ شديدٍ ، و نظرت  استاذتنا الى وجوهنا المصفرةِ … نحن التلميذاتِ الوجلاتِ و قالت: لا تخفن فعصفورنا بخير.. و الحمد لله، و أردفت ما رأيكن أن نعيدَ هذا الصغير الناجي لأمه. أجبنا جميعاً بحماسة نعم. حملت العصفورَ، و لحقنا بها تكادُ قلوبنا تقفزُ تسبقُ كلَ خطوةٍ نخطوها. و كأنها سمعت هديرَ أنفاسنا القلقةِ المتلهفة … فوقفت المعلمةُ فجأةَ … و أدارت عينيها علينا واحدةٍ واحدة  ..و سألتنا: ترى أينَ عشُ هذا العصفور المسكينِ؟ لم أحتملْ الانتظارَ .. فكنتُ من أجابَ: أبلة ربيحة .. العشُ في شجرةِ الكينيا الكبيرةِ في الساحة .. و اسرعتُ أجيبُ على التساؤل الباسمِ في عينيها : كلُ العصافيرِ تعيش هناكَ … و لا تكفُ عن الغناء. تبسمت و قالت: تعالوا نضعَ هذا الصغيرِ هناك … و نرى! وضعت العصفورَ على غصن ٍعالٍ و طلبت منا العودةَ للفصلِ، و لكنها قرأت السؤالَ في أعيننا: ماذا سيحدثُ للعصفورِ ؟ .. من سيأخذهُ؟ من سينقذهُ … أو من سيأكلهُ؟ ربما قطةُ الحارسِ العم حسن؟ قالت حسناً: ما رأيكم أن نقومَ بتسميعِ النشيدِ هنا في الساحةِ … و نراقبُ ما يحدث؟  أومأت  التلميذات بالموافقةِ . لم تمضِ ثوانٍ و إذ بزوجٍ من العصافيرِ يحومُ حولَ الصغيرِ … و يرفرفان بشدةٍ حوله، ثم يهبطانِ بهدوءٍ الى جانبه. تسمرتْ أعينينا جميعاً على المشهدِ والطائران يحاولان حملَ العصفورِ الخائف … و هو يترنحُ .. و يكادُ يسقطُ كلَ مرةٍ …. و قلبي يهوي معه مرةٍ تلو مرة. و فجأةَ توقفَ العصفوران، و نظرَ كلُ منها الى الآخر … و تساءلتُ حينها : ماذا قررَ هذان العصفوران لإنقاذِ صغيرهما و اعادته للبيت؟ وقفَ كل واحدٍ منها على أحدِ جانبي العصفورِ، و أخذا يدفعانهُ بحنانٍ قليلاً قليلا باتجاهِ نهايةِ الغصنِ .. الى أن تشابكَ مع غصنٍ آخرٍ أعلى منه ثم ساعدا الصغيرَعلى الفقزِ للأعلى و كررا الأمرَ …. و لا زالت أنظارنا مبحلقةً بالعصافيرِالثلاثة … إلى أن قطعَ صوتُ جرسِ المدرسةِ انتباهنا  معلناً بدءَ الفسحةِ الأولى. استأذنت المعلمةُ، و هي تطمئننا أن العصفورَ بخيرٍ، و أنه بأمانٍ مع والديهِ بعد أن اختفى الثلاثةُ بين أوراقَ الشجرةِ و الأغصانِ المتشابكة. قلت لمعلمتي ذلك اليومَ و لا زالت عينايَّ معلقتان بالشجرة تحاولان ايجاد العصافيرِ الثلاثة: أبلةَ ربيحة .. أنا أحبُ شجرةَ الكينيا هذه كثيراً . قالت لي يومها: ما نحبه  و نحن صغاراً نحبه كثيراً …. و نذكره طويلاً.

كنت اليومَ أقرأُ اقتباساً للكاتب المصري بهاء طاهر: ” هناك زهورٌ لكلِ وقتٍ، و ليس للربيعِ فقط.” فخطرتْ على بالي شجرةُ الكينيا العتيقةِ التي كانت تعطرُ ساحةَ المدرسةِ بأريجها المميزِ الذي يشرحُ الصدرَ، و قد كانت وجهتي الأولى كلَ صباحٍ أدخلُ فيه المدرسةِ …  كنت أرغبُ برؤيةِ النحلِ الذي كان يختفي بين بتلاتِ تلك الزهرةِ البيضاءِ المدورةِ  كأنها كرةٌ من القطنِ، و تتشعبُ خيوطُ بتلاتها الرقيقةِ و تنتهي بأطرافٍ صفرٍ مدورة. كنت أتمنى أن أكونَ عصفورةً و أطيرَ الى أعلى الشجرةِ … و أرى ما يجعلُ هذه العصافيرُ دائماً سعيدةً ومستبشرةً لهذا الحد .. كان عندي يقيناً أن السرَ … في شجرة ِالكينيا ..  فهي شجرةٌ عجيبةٌ . …لا ثمرَ لها و لكن خضرتها و ظلها دائمٌ … لا يرتبطُ بالفصولِ، و لا تهجرها الطيورُ، و لا يفارقها النحلُ صديقُ العطرِ. الشجرة الكينيا علمتني و أنا طفلةٌ صغيرة أن والديَّ هما من يحباني أكثرَ من أيِّ أحدٍ … و لن يتخلوا عني أبداً، و علمتني أن أحبَ الشجرَ و الطبيعةَ، و أن أحترمَ الكائنات الأخرى التي تشاركنا الوجودَ، و كما جعلتني أحبُ الموسيقى و أعشقُ العطرَ، و تذكرتُ ما قالته معلمتي و أدركتُ معناه اليومَ: ما نحبهُ  و نحنُ صغاراً ….  نحبه كثيراً …. و نذكره طويلاً.

One Comment اضافة لك

  1. ابو كرم ابو شاويش كتب:

    رائعة ..فقد قرأتها مرات عديدة..لأنني عشت ذلك في مدارس اللاجئين…لا أعتقد انك كنت يوما طفلة ..فقد عرفتك في الفصول و ذكاء عقلك الكبيييير ملئ المكان و كل ما حولك..و الان انت كاتبة كبييير .ما عليكي ذود…..يدوم عزك و عز أسرتك..

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s