
في امسياتِ الصيفِ الطويلةِ، كنتُ أجلسُ تحتَ قدميّ جدي بجانبِ كرسيهِ الخشبيّ الذي صنعه أبي، و أستمعُ لحكاياتهِ الجميلةِ، و التي لم يجعلْ لأيّ منها نهاية، و كأنهُ تركَ ليّ الخيالَ و الخيارَ لأنهيها كيفما أحب. و في أيامِ الشتاءِ الباردةِ كنتُ ألتصقُ الى صدرهِ تحتَ اللحافِ الصوفي المحشي بشعرِ كل الخرافِ التي حلقَ لها أبي شعرها قبلَ أن نضحي بها على العيد. كنتُ أجدُ في حكاياتِ جدي المشوقةِ ما كان ينسيني رغبتي الشديدةِ في اللعبِ مع رفاقي في الشارعِ بماءِ المطرِ. و كان جدي يخبيءُ ليَّ كيسَ القطين ( ثمر التين المجفف) و الفولِ السوداني المحمصِ في زاويةِ الحائطِ بجانبِ فرشتهِ المستلقية منذُ زمنٍ بعيدٍ على الحصيرةِ في غرفةِ الضيوف.
ذاتَ يومٍ شديد البردِ … غزيرِ المطرِ، و كنت أرتجف كالعصفورِ، حين تسللت من دون علمِ أمي لألعبَ مع رفاقي في الشارعِ، و لم أحس كم مضى من الوقتِ إلا حين بدأ جسدي يرتجفُ من البردِ. كنت أعلم ما سألاقيهِ من أمي- التي كانت في المطبخِ مشغولةً بلفِ ورقِ الملفوفِ بالأرزِ و اللحمِ الذي أحبهُ كثيرا- من التوبيخ و العقاب. لم يكنْ لي ملاذٌ سوى حضنَ جدي الدافيء و لحافهِ الصوفي لأختبيءَ فيه. خلعَ جدي بلوزتهُ، و ألبسني اياها- البلوزةُ التي غزلتها جدتي منذُ عشراتِ السنينِ- و ملأني العجبُ … كيفَ لا يزالُ جدي يلبسها، فقدْ كانت خشنةً و مليئةً بالثقوبِ. و حينَ سألتهُ: أليسَ لديكَ غيرها ؟ قال:بلى .. و لكني ألبساها فيملؤني الدفءُ، و أحسُ بأني أحتضنُ جدتكَ رحمها الله الى صدري، فيغمرني الفرحُ و الرضا، و أذكرها حينً كانت تغني … و تغزل لي هذه البلوزة. غالبَ الدمعُ عينيهِ .. فقلتُ له : لا أعرفُ كثيراً من المفرداتِ كي أقولَ ما أحسُ بهِ من كلمات. قالَ لي يومها: ولكنَ لك لحنٌ صغيرٌ و بريءٌ مثلك… و يوماً ما سوفَ يحررُ كلَ ما في قلبكَ من حبٍ و أمنيات.
مدَ جدي يدهُ المرتجفةُ الى صندوقٍ خشبيٍّ صغيرٍ بجانبِ وسادتهِ، و فتحهَ …. و أعطاني ناياً منَ الخيزرانِ .. و قال لي: سيأتي يومٌ لنَ تجدَ من يسمعكَ، و لا عينٌ تبكيكَ ….. لا قلبٌ يحتويك… فحينها ..انفخ في هذا الناي حزنكَ و فرحكَ … و أنت مغمضِ العينين، و استمعْ للحنكَ بقلبكِ … فترانيمُ قلبكَ تستحقُ الحياة. و اعلمْ أن جمالَ اللحنِ ليسَ بكثرةِ المستمعين، و لا بتصفيقِ المعجبين، بل بصدقِ بوحكِ للناي بما تحس بهِ. كل لحنٍ يا صغيري .. نهرٌ دافقٌ بالحياةِ و قدره أن يصب في بحر الصخب العظيمِ حيث الموجُ يبتلع كل الألحان و الأنغام، و يمزجها بملح الضياع. فاعزف يا ولدي .. اعزف لحنك و انساه … فيكفي روحك سماعَ صداه.
جميل.. ومليئ بالوجدانيات.. بالتوفيق دائما
تسلمي عزيزتي و شكرا
قصة حلوة تجمع اصالة الماضي وتعزف على سيمفونية الحياة
إطراء جميل شكرا عزيزي