صباح و مساء

on

Difference

أسمه رامي الصياد يشبه اسم مسلسل أطفال تليفزيوني مشهور، و لكنه رامي ليس طفلاً … بل رجلاً تجاوز السبعين من عمره و ليس بصيادٍ بل كان كهربائياً، و لا زال يملك ورشة كبيرة و ناجحة. رامي أكبر إخوته الثلاثة الذكور وهم أبناء العم محمد مؤذن المسجد و بائع الخضار في سوق القرية الصغيرة الساكنة أعلى التلة في المدينة المترامية الأطراف. اعتاد رامي المشي كل يومٍ الى ورشته التي تبعد حوالي نصف ساعة من بيته، و قد حفظ الطريق بما فيه من بشر و طير و شجر و حتى الحديد و الخشب و الحجر، و على قدومه و إيابه ضبط أهل القرية ساعتهم كما كانوا يضبطون مواعيد صلاتهم على صوت أبيه معلناً الصلاة. مضى من العمر الكثير، و لا زال يأمل بالعيش سالماَ في أهله … آمناً في وطنه معافاً في بدنه و هذا أقصى و أثمن ما يتمنى في الحياة التي يحس بها تتناقص مع قدرته على قضاء أشغاله و حاجياته. اليوم ليس ككل يوم … هذا ما خلصت به معاينته و تفكره في كيف مضت سنين العمر، و قد أدرك متأخراً أنه و إن لم يجَّدْ على يوم المرء منا جديد فهذا لا يعني أن اليوم يشبه الأمس. قال محدثاُ نفسه: آه لو عادت بيَّ الأيام للوراء لكنت أرغب بعمل الكثير… و العيش بطريقة مختلفة .. و لكن اليوم الذي يمضى لا يعود.

كان صوته الغاضب الناقم أول شيءٍ يسمعه منذ أن فتح باب البيت الذي لم يتغير به شيء منذ أربعين سنة، قالت زوجته مُعلقةً وهي تودعه: يا صباح يا عليم .. يا رزاق يا كريم، الله يسهل لك يا أبو محمد و ييسر لك أمورك.. ثم توارت خلف الباب الذي أغلقته و هي تتمتم بالدعاء. كان عاصم يضرب على طبلون السيارة بكلتا يديه، و ينفث الغضب من بين شفتيه و تخرج الكلمات من فمه كالبركان، و قال صارخاً و أباه ينظر اليه مشفقاً: و كمان هالسيارة بتعاندني .. كيف بدي أروح عالشغل .. و الله إن تأخرت بيشغلوا غيري .. البلد مليانة شباب عواطلية زي … ايش أعمل .. كيف بدي أوصل على المينا.. يالله …. هالقرية المنحوسة اللي ما فيها شيء بيسر الخاطر.. يا رب توب علينا و ارحمنا. قال العم صالح محاولاً تهدئة أبنه: طول بالك يا بنيِّ .. عله خير .. خلي السيارة هين و شوف حد يوصلك و لما تروح بتصلحها. رد عاصم و صوته المغمس باليأس و الغضب: خير يا أبي .. من سنين و البلد ما شافت خير .. و يا رب يكون خير. رد عليها الصباح … دون أن يعلق بكلمةٍ و مضى في طريقة و هو يتذكر أولاده محمد الذي يعمل في الكويت و حازم الذي هاجر الى الأرجنتين و هيفاء التي تسكن العاصمة بيروت مع زوجها و أولادها .. تذكر كيف رحلوا جميعاّ من القرية بلا أسفٍ على مغادرتها و لا ندم.

قطع نصف الطريق و أخذ المنحنى الى أعلى التلة، و قد بدأت تتغير ملامح قرية …. فالشارع مرصوف و مزروع بأشجار الصنوبر والأرز و الورد يدور حول جذوع الشجر كأنه فساتين الصبايا يوم العيد، و عمدان الإنارة تدلت منها المصابيح … هذا بيت النائب في البرلمان على الزاوية . تذكر عندما كان في الثانية عشرة من العمر حين سكن المهندس عماد بيت المزرعة المتواضع، ثم أصبح نائباً و لم يتغير في القرية شبرٌ واحد و تغير كل شيء في البيت الصغير فأصبحَ قصراً مهيباً، و ارتفعت أعمدته و كثرت نوافذة الزجاجية الملونة، و اكتظ الشارع بسيارات الزوار التي لم تنقطع عن زيارة المزرعة. تذكر ذلك اليوم و كان يوم السبت اجازته من المدرسة حيث يلعب كرة القدم مع رفاقه في ساحة المدرسة في الملعب الوحيد في القرية، و لكن أباه الحاج محمد قد أمره بتوصيل طلبية الخضار و الفاكهة لبيت المهندس القادم الجديد للقرية. ذهب غاضباً ساخطاً و على عجالة من أمره، و فتح له الباب صبي في عمره اسمه دياب، استوقفه بروح الدعابة و الترحاب، و أصر أن يدخل البيت، و يشرب عصيراً باردا. كان كثير الكلام متتال الأسئلة، و لكنه كان لبقاً و متحدثاً ذكياً لدرجة أنه لم يتضايق منه بل في الحقيقة أحبه. كان دياب مختلف عنه في الشكل ة الهيئة و الصفات و الطبقة الإجتماعية، و لكنه كان يحب كرة القدم و كان هذا كافياً. أمضيا كل اجازات الصيف و الأعياد معاً. كان دياب يشكو من انشغال أبيه بالحزب و السياسة و المنافقين الذين يحضرون حفلات الطعام و اللهو محملين بالهدايا، و يرحلون و قد أخذوا الختم المطلوب على طلباتهم التي لا تنتهي. قال له ذات مرة: لا أريد أن أكون كأبي محاط بهالة كاذبة بل أريد أصدقاء حقيقين أحبهم و يحبونني مثلك يا رامي. انتهت المرحلة الثانوية و كان الأول على مدرسته و تمنى أن يصبح مهندس كهربائي، و لكن أقساط الجامعة لم تكن شئء يقدر عليه العم محمد المؤذن، و يذكر جيداً يوم ذهب مع أبيه للمهندس و النائب العام أبو دياب ليوقع له خطاب توصية- و كانت ضرورة أساسية للحصول على المنحة من أحدى الجامعات في بيروت- و لكنه النائب قال موجهاً الكلام لأبيه: ما دام ما بتقدر تصرف عليه خليه عندك يساعدك أو دخله دبلوم صناعي أحسن لك وإله. كان يومٌ لا ينسى من حياته فقد أومأ العم محمد رأسه بالموافقة و قال: و الله كلامك صحيح يا بيك، و ثنى الورقة التي لم يتسلمها أو يلمسها النائب الذي أشاح بوجه لإبنه دياب و قال له: شايف كيف الناس بتتمنى تروح الجامعة زيك حبيبي. هز دياب رأسه موافقاً دون أيَّ تعليق أو أسف. و حينذا أغلق رامي تلك الصفحة من قلبه و أحس بخذلان صديقه له.. و بأنها كانت صفعة عمره. مضت سنين و تخرج فني كهربائي و أصبح دياب مهندساً ثم أصبح نائباً بعد وفاة أبيه، و لا زالت الولائم و العزائم و الضيوف و المنافقين يحجون ذلك القصر المشيد حتى ساعاتِ الصباح الباكر.

أخذ المنحنى الأخير ليصل الى ورشته و اذا بأبو البنات كما سمي محمود- فلديه خمس بنات- مدرس الصف الثالث الإبتدائي يتقافز من الفرح و بيده علبة معدنية مزخرفة و مليئة بالشوكولاتة، و يستقبل كل المارة بالبشر و يقدم لهم تحلاية قدوم ابنه باسل المنتطر من عشر سنين، و كان أقسم إن رزق بالولد ليقيم حفل و ليلة أنس لم تعرف القرية مثلها أبدأ. بارك له و وعده بحضور الحفل الذي دعاه اليه في المساء. سعادة أبو باسل الغامرة أنسته صديق عمره دياب، و لكن نظرة الى زاوية الشارع حيث تسكن سعاد الخياطة أعادت دولاب الذكريات الى الوراء و أحس بغصةٍ في قلبه لا زالت تؤلمه كلما تذكرها. أحبها كثيراً و كانت بنت الناظرو أجمل فتيات القرية، و أراد الزواج بها، و لكنها تزوجت من الدكتور الثري الذي يعمل في الإمارات العربية على الزواج من فني كهربائي مثله. ملأ قلبه اليأس و الإحباط و هو الذي عمل جاهداً ليفتح ورشته الخاصة، و يشتري بيته الصغير و يحقق حلمه بالزواج منها. رحلت عن القرية، و عزف عن الزواج الى أن تزوج تحت الحاح والديه. و مضت خمس سنوات و رزق بمحمد و هيفاء و حازم. عادت سعاد بعدها الى القرية مطلقة لأنها عقيم و لا تنجب أطفالأ و أتى والدها يحثه و يغريه بالزواج منها، و لكنه كان قد أقسم بعد كل خيبةِ أملٍ … أن لا يفتح صفحات الماضي التي طواها في قلبه، و ختم عليها بالألم و الشمع الذي ذاب و هو يبكي الحسرة و قسوة الأيام. عاشت بعدها سعاد الخياطة و لا زالت في بيت أبيها الناظر، و يحمد الله أن كتب له خيراً مما تمنى و اشتهى.

وصل الورشة و قد سبقه الشاب مأمون الذي كان قد فتح الورشة و نظفها و صوت فيروز تغني يملأ الورشة – التي لا زالت على حالها منذ ما يقارب الثلاثين سنة- بالسرور و النشاط . ليس من جديد فالوجوه هي الوجوه، و حتى الأجهزة التي تعطل ما زالت هي نفسها. حفظ القرية بكل خط كهرباء فيها و بكل جهاز و موديله و سنة انتاجه. أتى مأمون مازحاً: صباح الخير يا معلم .. يا رب يرزقنا بشغل منيح اليوم .. ما بنعرف جهاز مين رايح يخرب اليوم. رد عليه رامي: صباح الخير يا ابني . يأتي الرزق من عند الله ،و يقسم لنا منه ما شاء الله، و لسان حالنا كل يوم الحمد لله…و ما تتمنى الخراب و العطل .. ” لا تيأس و لا تقنط” هيك الوالد الله يرحمه كان يحكي لي .. احسن الظن بالله و قول يا رب. و مضى اليوم كما مضت غيره من الأيام و أقفل ورشته الساعة السادسة مساء و عاد للبيت ماشياً ككل يوم.

أحس بدوار شديد و وقع على الأرض، و ظن أن ضغط دمه قد انخفض، و أنه كان يجب أن يأكل شيئاً، و لكن صوت الإنفجار الشديد القادم من بعيد، و سحابة الدخان المهولة التي غطت الأفق كالمظلة الضخمة أيقظته من أوهام المرض و العجز. اهتزت الأرض تحت قدمه فعادود الجلوس على الأرض ثانية. بدأ الناس و المارة بالصياح و خرج الأطفال و النساء من البيوت هرباً من الزجاج المتساقط من النوافذ، و الأثاث الذي غادر أماكنه مجبراً متحولا لقطع لا تشبه الأصل بشيء. ماذا هناك؟ ماذا جرى؟ ماذا حدث؟ أين و كيف؟ و من و هل؟ كل الأسئلة تملأ الأفواه التي فك عقالها الخوف و الرعب، و تواثب الجمع الى أعلى التلة في القرية لرؤية مصدر الإنفجار. و كانت المفاجأة في بيت النائب الذي تباعدت أعمدته الرخامية من أماكنها و تساقط الزجاج الملون من النوافد و مالت أعمدة الإنار ة منكسة روؤسها و مكسرة مصابيحها. الإنفجار قادم من المرفأ قال أحدهم مشيراً بيده الى سحب الدخان التي حجبت صفحة البحر، وغطت العاصمة بالدخان و الغبار

ضرب يداً بيد و قال: لا حول و لا قوة إلا بالله. ترك الجمع يأولون و يستنتجون و يخمنون .. أهي حرب جديدة … أهي مؤامرة جديدة ، ثم و فجأة بدأوا يدركون ما يجب أن يتبينوه و يتحققوا منه …أهلهم … أولادهم في العاصمة .. هل هم بخير؟ بدأ الخوف يملأ القلوب. ساد القرية الذعر الشديد و بدأ الناس بالتفرق و العودة للبيوت لإكتشاف ما فيها من ضرر … تمنوا أن لا يكون في مكروه لعزيز عليهم. اتصل بابنته هيفاء و طمأنته انها و زوجها و أولادها بخير و أن الأضرار في شقتها بسيطة و مقدور عليه. و دقائق و إذ بمحمد و يليه حازم يتصلان به ليطمئنوا عليه. كلم زوجته و طمأنها أن الأولاد جميعاً بخير. لاح له من بين الجمع أبو باسل و هو يقول: يارب الطف فينا … و يا ليلة ما يعلم فيها إلا رب العباد و هو يشير الى سحب الدخان و اللهب التي غطت السماء. قال له أحدهم: يا راجل روح اطمن على مرتك و عيالك و خلي حفلتك ليوم ما فيه انفجار و غيم. لم يكن الأمر مزحة ليضحك أحد، و لكنه وافق و أخبر الجميع أن الحفلة قد الغيت

أصبح و كل ما يشغل البال فكرة أن يمضى اليوم على خير و ظن أنها أكبر و أعظم شيء و أنها خلاصة و زبدة الأماني، و لكنه أمسى عائداً الى بيته و تتنازعه كل الفكر و و تتشعب به الأمانى لأولاده و أهله و قريته و وطنه. كانت الأفكار تدور في رأسه كأنها أفلاك ضلت مداراتها و تخبطت في الفضاء اللامتناهي … تلتقي ببعضها … و تكاد تتصادم ثم تتباعد فجأة متنافرة. لم تكن يدا عاصم اللتان تضربان طبلون السيارة التي تساقط زجاجها هذه المرة … بل يدا أبا عاصم الحاج صالح و هو يصرخ بصوته المتألم المخنوق .. راح الولد … راح الولد … و آه منك يا بلد … التف الجيران حوله في محاولة لتهدئته و لكن الخبر قد وصل لقد كان عاصم في المينا يٌحمل البضائع .. اختفى المرفأ و و اختفى كل ما فيه. كانت زوجته بجانب أم عاصم التي عقلت الصدمة لسانها ……و لا زالت تمسك بباب السيارة المفتوح كأنها على وشك ركوبها و الذهاب لمكان ما

4 Comments اضافة لك

  1. رياض وادي كتب:

    مرفا بيروت كشف حقائق كثيرة ولايزال….آلله يفتح عليكي

    1. rawmak كتب:

      و علينا جميعا.

  2. ابوكرم حيدر ابو ساويش كتب:

    عبقرية فريدة ..نسيت نفسي و انا أقرأ…هو الواقع القريب…الله غالب..تحياتي و تقديري

    1. rawmak كتب:

      شكرا جزيلا

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s