قالت تحدثُ صديقتها، و هما في الطريقِ الى العملِ: لقد قررتُ تغييرَ مكانَ شجرةِ الياسمين، و أردفت لقد أخذتُ القرارَ بنقلها، و سأجازفُ بخلعها من الجذور. لم تلحظْ الحزنَ الذي بدا في عينيّ صديقتها سامية، و لا رأت كيفَ هزت رأسها بسخريةٍ و شفقةٍ عليها. و أكملتْ أنت تعرفين أني زرعتها منذُ عشرِ سنواتٍ حين اشترينا بيتنا، و هي أحبُ إلى قلبى دونَ سواها من الأشياءِ في بيتي. هزت سامية رأسها موافقةً و أكملت هدى: لقد اعتنيتُ بها، و راقبتها بعينِ محبتي و رعايتي لسنينٍ .. و كلما كبرتْ … مدت أغصانها، و هجرت حديقتي، و أطلت بزهرها و عطرها على الجيران… و تركت لي جذوعها الجافةِ العجوز، و أطلقت العنانَ لبراعمها الغضةِِ و أوراقها الخضراء و وردها المعشقِ بالعطرِ و الألوان، و هربت عبرَ الجدارِ الى غيري .. و علا صوتها الغاضبُ .. و أكلمت: أحسُ أنَ هذهِ الشجرةُ قد خانتني، و أصبحت كالولدِ العاق … و بناءً على هذا .. لم تكمل الجملة و قد استوقفها بكاءُ رفيقتها
ياللهُ ما أصغرُ همكِ الذي يشغلُ بالك .. آه …لو تدري ما معنى أن يكونَ لكِ ولدٌ عاق! لم تدري هدى ما تقولُ، و لكنها أدركت أنها لمست ذلك الجرحُ الملتهبِ الذي يحرقُ قلبَ صديقتها و زوجها. قالت بصوتها الباكي، و صدرها يعلو و يهبط كموجةِ بحرٍ مضطربةِ ضلت سبيلها إلى الشاطيء: لقد تعبنا و شقينا سنين لتعليمهِ، و ليصبحَ المهندسَ الناجحِ، و أرسلناه إلى اليابان ليكملَ تعليمهُ، و يعودُ إلينا … فينفع وطنه و ينفعنا .. و لكنه فضلَ البقاءَ في بلادِ العلمِ و الحضارةِ التي تتلائم مع مؤهلاته العلمية الجديدة. يالله لقد ارتكبنا ذنباً بحقِِ أنفسنا و حق ولدنا .. و حرمنا نفسنا قربهُ و حبه و بره ….. و أنت تحدثيني عن شجرة ياسمينٍ عاقة
صممت هدى للحظةٍ … إرتد بها الخيالُ إلى عشرِ سنينٍ مضت …. يومَ اشترت شتلةَ الياسمينِ الصغيرةِ من ذلك المزارعِ العجوز، و تذكرت ما قاله لها. و أدارت بوجهها الى صديقتها، و لا زالت عيناها غائبتين في الماضي، و قالت: حين اشتريت شتلةَ الياسمينِ .. قال لي المزارعُ: يا ابنتي هذه الشجرةِ … صغيرةٌ و غضةٌ ومتسلقةٌ .. أذكر أنّي قاطعتهُ قائلةً: أدري شكراً . و لكنه أردفَ و هو يأخذُ مني النقود : يا ابنتي تخيري لياسمنتكِ الجدارَ الذي تتسلقهُ … فهو طريقها للوطنٍ الذي ستستقر فيه. أذكر كيفَ نظرتُ الى الرجلِ باستغرابٍ و استهانةٍ .. و كيف تمتمتُ لنفسي يومها … يا لها من فلسفةٍ فارغة … و أظنه حينها … قدَ قرأَ الكلامَ في عينيّ، و قالَ لي و هو يهزُ رأسه شمالاً و يمينا: لا تحاولي خلعَ شجرةِ الياسمينِ من مكانها حينَ تكبرُ … فإنها في الغالبِ ستموت، الأفضلُ … حين ذاك أن تشتري شتلةً جديدة
صمتت الصديقتان …و كانت ساميةُ أولَ من تكلم: ذلك المزارع ُ كان على حقٍ .. فكما اخطأتِ أنتِ اختيارَ الجدارِ لياسمنتك .. أخطأتُ أنا اختيارَ الطريقَ لإبني الوحيد .. لقد مهدتُ له الطريقَ للرحيلِ عني و عن أبيه، و أسكنتُه وطناً جديداً … أحبه و تأقلم معه .. حتى أصبحنا نحنُ الغرباء …. تماماً كما … فعلت معكِ ياسمنتك .هزت هدى برأسها موافقةً .. و قالت: زرعت شجرةً .. أهديتها دونَ قصدٍ مني لجيراني .. أتمنى أن يدعوا لي بالخير . أعتقد أنه يجبُ أن أشتري شتلةً جديدةً، و أزرعها بجانبِ الجدارِ الداخلي للبيت. هزت الصديقتان رأسيهما موافقتين و مشيتا … و قد سكنَ الصمتُ شفتيها، و لكن ساميةَ عضت على أسنانها، و مطت شفتيها تتسائلُ في نفسها … إن كانَ .. لازالَ هناك ما تزرعهُ؟
اريد وتريد والله يفعل مايريد
و نعم بالله
انها مقالة في غاية الروعة فقد تمكنت بشدة ذكاءك وعمق بصيرته و فراستك ان تمزجي الأشياء حتي خيل لي ان عود الياسمين هو الابن الذي يغرد خارج السرب ..و لكن من زرع الخير لن يحصد الا الخير ..و من يزرع الخير لا يعرف إلا أن يداوم علي ديمومة زراعتة و رعايتة..دمتم بعز و خير..فعلا انت فخر لفلسطين…..اختنا العزيزة
اللهم اعنا على أن نزرع طيبا و ان نحصد طيبا. شكرا جزيلا ابو كرم.