شجرة ُالكينيا العتيقة ُالتي كانت تسكنُ فناءَ مدرستي الابتدائية كانت ملهمتي، فقد أحببتُ تلكَ النغمات التي يُحدثها ورقها الراقصِ على أثيرِ النسيم، و التي كانت ترسمُ الألحانَ للعصافيرِ التي ما انفكت ترددُ سمفونيتها برغمِ الضجيجِ الذي كانت تصدرهُ التلميذاتُ في ساحةِ المدرسةِ الرملية . كانت شجرتي هي الأكبرُ من بين كل شجيراتِ الساحةِ … كأنها القائدُ و الأمُ لهن. كنتُ أتقافزُ من نقطةِ ضوءٍ لأخرى كلما تحركت الأغصانُ، و نثرتْ دنانيرَ الضوءِ على الأرض، كنت أسابق الوقتَ و الزمنَ لأجمعَ ذلكَ الذهبِ قبل أن يسرقهُ الظلُ من يدايَّ أو قدمايَّ اللتان كانتا ترقصان مع كلِ لمحةِ ضوء. سافرت كثيراً و رأيت من الشجرِ الكثيرِ، و لكن ولائي لشجرةِ الكينيا تلك لم يقلْ يوماً. قارنتُ جمالها بكلِ الشجرِ الذي رأيته لسنينٍ … فلم أرَ أجملَ منها خضرةً و لا أوفرَ ظلاً و لا أطولَ قامة، فلا زالت القائدَ لكلِ الشجرِ و الأمَ لهن جميعاً
كان فصلي هو أقرب الفصولِِ لساحة المدرسة، و كان جاراً لشجرةِ الكينيا التي تشعبت أغصانها، و تسلقت سقفَ الفصلِ. كانت موسيقى العصافيرِ تملأُ الفصلَ كأننا في قاعةِ أوبرا، و لا زلتُ أذكرُ كم كانَ صعبٌ أن أستمعَ لمدرستي بانتباهٍ في الأسبوعِ الأولِ من الدراسة، و لكني مع الوقتِ اعتدت أن أسمعَ صدى هذه الموسيقى في قلبي، و استطعت التركيزَ على الدرسِ. و في يومٍ ما و نحن في حصةِ اللغة العربيةِ، و بينما كانت مدرستنا ربيحة تكتبُ لنا النشيدَ على السبورةِ، و تشرحُ معاني الكلماتِ فيها، وقعَ عصفورٌ صغيرٌ من بين فتحاتِ القرميدِ المكسَّرِ في سقفِ الفصل على الأرضِ، التقطته و قلَّبته بين يديها بحنانٍ شديدٍ ، و نظرت استاذتنا الى وجوهنا المصفرةِ … نحن التلميذاتِ الوجلاتِ و قالت: لا تخفن فعصفورنا بخير.. و الحمد لله، و أردفت ما رأيكن أن نعيدَ هذا الصغير الناجي لأمه. أجبنا جميعاً بحماسة نعم. حملت العصفورَ، و لحقنا بها تكادُ قلوبنا تقفزُ تسبقُ كلَ خطوةٍ نخطوها. و كأنها سمعت هديرَ أنفاسنا القلقةِ المتلهفة … فوقفت المعلمةُ فجأةَ … و أدارت عينيها علينا واحدةٍ واحدة ..و سألتنا: ترى أينَ عشُ هذا العصفور المسكينِ؟ لم أحتملْ الانتظارَ .. فكنتُ من أجابَ: أبلة ربيحة .. العشُ في شجرةِ الكينيا الكبيرةِ في الساحة .. و اسرعتُ أجيبُ على التساؤل الباسمِ في عينيها : كلُ العصافيرِ تعيش هناكَ … و لا تكفُ عن الغناء. تبسمت و قالت: تعالوا نضعَ هذا الصغيرِ هناك … و نرى! وضعت العصفورَ على غصن ٍعالٍ و طلبت منا العودةَ للفصلِ، و لكنها قرأت السؤالَ في أعيننا: ماذا سيحدثُ للعصفورِ ؟ .. من سيأخذهُ؟ من سينقذهُ … أو من سيأكلهُ؟ ربما قطةُ الحارسِ العم حسن؟ قالت حسناً: ما رأيكم أن نقومَ بتسميعِ النشيدِ هنا في الساحةِ … و نراقبُ ما يحدث؟ أومأت التلميذات بالموافقةِ . لم تمضِ ثوانٍ و إذ بزوجٍ من العصافيرِ يحومُ حولَ الصغيرِ … و يرفرفان بشدةٍ حوله، ثم يهبطانِ بهدوءٍ الى جانبه. تسمرتْ أعينينا جميعاً على المشهدِ والطائران يحاولان حملَ العصفورِ الخائف … و هو يترنحُ .. و يكادُ يسقطُ كلَ مرةٍ …. و قلبي يهوي معه مرةٍ تلو مرة. و فجأةَ توقفَ العصفوران، و نظرَ كلُ منها الى الآخر … و تساءلتُ حينها : ماذا قررَ هذان العصفوران لإنقاذِ صغيرهما و اعادته للبيت؟ وقفَ كل واحدٍ منها على أحدِ جانبي العصفورِ، و أخذا يدفعانهُ بحنانٍ قليلاً قليلا باتجاهِ نهايةِ الغصنِ .. الى أن تشابكَ مع غصنٍ آخرٍ أعلى منه ثم ساعدا الصغيرَعلى الفقزِ للأعلى و كررا الأمرَ …. و لا زالت أنظارنا مبحلقةً بالعصافيرِالثلاثة … إلى أن قطعَ صوتُ جرسِ المدرسةِ انتباهنا معلناً بدءَ الفسحةِ الأولى. استأذنت المعلمةُ، و هي تطمئننا أن العصفورَ بخيرٍ، و أنه بأمانٍ مع والديهِ بعد أن اختفى الثلاثةُ بين أوراقَ الشجرةِ و الأغصانِ المتشابكة. قلت لمعلمتي ذلك اليومَ و لا زالت عينايَّ معلقتان بالشجرة تحاولان ايجاد العصافيرِ الثلاثة: أبلةَ ربيحة .. أنا أحبُ شجرةَ الكينيا هذه كثيراً . قالت لي يومها: ما نحبه و نحن صغاراً نحبه كثيراً …. و نذكره طويلاً
كنت اليومَ أقرأُ اقتباساً للكاتب المصري بهاء طاهر: ” هناك زهورٌ لكلِ وقتٍ، و ليس للربيعِ فقط.” فخطرتْ على بالي شجرةُ الكينيا العتيقةِ التي كانت تعطرُ ساحةَ المدرسةِ بأريجها المميزِ الذي يشرحُ الصدرَ، و قد كانت وجهتي الأولى كلَ صباحٍ أدخلُ فيه المدرسةِ … كنت أرغبُ برؤيةِ النحلِ الذي كان يختفي بين بتلاتِ تلك الزهرةِ البيضاءِ المدورةِ كأنها كرةٌ من القطنِ، و تتشعبُ خيوطُ بتلاتها الرقيقةِ و تنتهي بأطرافٍ صفرٍ مدورة. كنت أتمنى أن أكونَ عصفورةً و أطيرَ الى أعلى الشجرةِ … و أرى ما يجعلُ هذه العصافيرُ دائماً سعيدةً ومستبشرةً لهذا الحد .. كان عندي يقيناً أن السرَ … في شجرة ِالكينيا .. فهي شجرةٌ عجيبةٌ . …لا ثمرَ لها و لكن خضرتها و ظلها دائمٌ … لا يرتبطُ بالفصولِ، و لا تهجرها الطيورُ، و لا يفارقها النحلُ صديقُ العطرِ. الشجرة الكنينيا علمتني و أنا طفلةٌ صغيرة أن والديَّ هما من يحباني أكثرَ من أيِّ أحدٍ … و لن يتخلوا عني أبداً، و علمتني أن أحبَ الشجرَ و الطبيعةَ، و أن أحترمَ الكائنات الأخرى التي تشاركنا الوجودَ، و كما جعلتني أحبُ الموسيقى و أعشقُ العطرَ، و تذكرتُ ما قالته معلمتي و أدركتُ معناه اليومَ: ما نحبهُ و نحنُ صغاراً …. نحبه كثيراً …. و نذكره طويلاً
ضاعت نفسي و انا اقراءها و تذكرة جزء من أيام المدرسة ، شكراً على هذه الكتابات الرائعة عزيزتي♥️♥️♥️
شكرا جزيلا عزيزتي
مع الشكر للكاتبة و المبدعة ..بنت القدس…و التي نكتشف كنوز عقلها و وأحاسيسها في كل كلمة بل و في كل حرف تخطة بيمينها التي اعتادت في طفولتها أن تلتقط دنانير الذهب في مدرستها..و طغولتها… و كذلك كل لمسة فن بريشتها و رسوماتها و التي تستوقفنا طويلا لنعرف و لا نعرف ما سنقول… امد الله في عمرك و متعك مع كل احبتك و نرجوا المزيد
شكراً أستاذي الفاضل
ذكريات داعبت فكري وظني…..لست ادري ايها اقرب مني
رائعه
شجرة الكينيا دواء للجهاز التنفسي يغلى اطراف اغصانها ويشرب منها واخذت هذه الشجرة الى اوروبا ويعمل منها دواء
احسنت
شكرا جزيلا على المعلومة رياض
شكرا كريم