الميزان

on

Scale

طيبُ القلبِ .. سلسِ المعشر، و على قلبِ والديهِ حلوٌ كقطعةِ سكرْ، مروانُ الذي بلغَ الثامنةَ عشرةَ من العمرِ، و لم ينجحْ في عملٍ و لا دراسة، ففتحَ له والدهُ متجر. تذمرَ أخواه من غباوتهِ و عدمِ قدرتهِ .. أيِّ صنعةٍ يتقن؟ هما شاهينُ الحدادُ  الشديدُ المحترفُ الدقيق، الذي يلينُ معه الحديد، كما يلينُ في يدِ العجانِ الدقيق، و حاتمٌ النجارُ الرشيقُ الأنيق، صناعتهُ الأنيقةُ الراقيةُ بالقصورِ تليق. كانا مضربَ المثلِ في الفنِ و الاحترافِ، و لكنِ المديحَ كان يذكرهما دومًا بفشلِ و غباوةِ أخيهم مروان، و هو أمرٌ صعبُ النكران

أرسلَ الملكُ في المدائنِ، يطلبُ كلَ محترفٍ متقنٍ لعملهِ، ليساهمَ في بناءِ قصرٍ مشيدٍ من حجرِ الجبلِ و الحديد، و أثاثٍ من خشبِ سنديانٍ و صنوبرٍ عتيد، و لمنَ أحسنَ العملَ المالَ الكثير، ومن رضا الملكِ المزيد. شدَ الأخوان الرحالَ بلا ترددٍ …. و تركا والديهما العجوزين مع مروان، و قالا لهما: هو أولى برعايتكُما …. كما كانَ دوماً أولى بدلالكِما و عطفِكما. وصلَ الأخوان كما وصلَ غيرهم، و كان استقبالهم استقبالَ العبيد، و في ثكناتٍ مبيتهم، و لا تطأ أقدامُهم شبراً عن مكانِ البناءِ بعيد، و في نهايةِ كل يومٍ يزدادُ المالُ، و يطولُ البناءُ، و لكنَ الملكَ كلما استحسنَ العملَ …. طلبَ المزيد. مرتْ السنواتُ الثلاثُ الأولى، و لكنَ العملَ لم ينتهِ، و اشتهتْ أنفسُ الرجالِ رؤيةَ الأهلِ و العيال، و إزدادتْ رغبةُ النفسِ لصرفِ المالِ في متاعِ الدنيا الذي شغلَ البال. و تساءلَ الأخوان من حينٍ لحينٍ … يا ترى ما آلَ إليهِ حالُ العجوزين ؟ و تبادلا الضحكَ كثيراً من توقعِ … و تخيلِ حالَ الغبي مروان ، و ما قدْ يكونُ غيرِ فيه الزمان

مرت الأيامُ … و مروانُ يسألُ نفسَهُ بعدَ غيابِ أخويهِ، لم لا يحسنُ صنعاً ولم يتقنُ عملاً … و لا يعرفُ كيفَ ينجزُ أمراً؟  كانَ لا بد َمنِ الاعترافِ و الصراحةَ. أحبَ الراحةَ و إستغلَ طيبَ و حنانَ والديهِ له، و أتعبهُ نقدَ و سخريةَ أخويه، فتركَ لهما كلَ الأمورِ ينجزانها بإتقانٍ …  و بأقلِ كلفةٍ و أقصرِ زمان. قالوا الحاجةُ أُمُ الاختراعِ، و لكن مع مروان الحاجة .. تعني الضياعُ، و أحوجته لصدقِ النصيحةِ و حسنِ الاستماع

كان يسندُ والدَهُ بيديهِ، يأخذهُ كلَ يومٍ إلى الدكانِ، يستمعُ لحلوِ حديثٍ حرمَ نفسهَ منه عمراً و زمان، و تعلمَ منه كيفَ يخاطبُ الناسَ، و كيف يبيعُ و يشتري بصدقٍ و بأفضلِ الأثمانِ …و لكن العمرَ ميقات….. رحلَ العجوزُ و كلهُ شوقٌ لرؤيةِ شاهينَ و حاتم، و قلبهُ عن مروانٍ مطمئنٍ و راضٍ. مرضتُ الأمُ و سألتْ مروانَ أن يتزوجَ لتفرحَ برؤيةِ أولادهِ، و ليؤنسوا وحدتها، كان شديد البر بوالدته، َو حقق أمنيتها فتزوج، و رزقَ مروانُ بطفليينِ أسماهما شاهين و حاتم. مرتْ ثلاثُ سنواتٍ أخرى … رحلت العجوزُ و ليسَ في قلبِها أمنيةٌ سوى رؤيةِ شاهين و حاتم، و قلبِها على مروانٍ مطمئنٍ و راضٍ

أتتْ القوافلُ بالأحمالِ و المالِ و الخيلِ و الجِمالِ، و تسابقَ الناسُ لرؤيةِ المحظوظين من الرجالِ. تغيرتْ ملامح ُالمدينةِ كما تغيرتْ ملامحُ الوجوه. و حلَ على الدنيا ضيوفٌ جددٌ، و رحلَ غيرهم الى غيرِ بيوت، و غابَ عن الأرضِ رجالٌ لطالما زرعوا و قلعوا… و حاربوا بالسيوف. جلسَ شاهينُ و حاتمٌ في مجلسٍ منيفٍ، يحكونَ و يصفونَ القصرَ و الحديقةَ، و رضا الملكُ و عنايتهُ بهم، و يظنُ الحضورُ أنها الحقيقة. و حانَ موعدُ الصلاةِ، فنهضَ مروانُ قاطعاً لحديثِ أخويه الشيقِ ….الذي أنسى الناسَ أنَ وقتَ الصلاةِ ضيقٌ. نهضَ الجمعُ بلا ترددٍ …. قال لهُ أخواه بغضبٍ و غرورٍ: أفي نفسكِ غيرةَ يا أخانا، أنَ الله ميزنا بكرمهِ و أعطانا. ردَ مروانُ بهدوءٍ و طيبِ نفسٍ: بل وصيةٍ من أبينا ….. لقد أوصاني بالصلاةِ على وقتها و دونَ الرقابِ السيفِ، و الرزقُ مكتوبٌ، و آتٍ لا يدري الرجلُ منا متى و كيف

هذا ليس مروان الغبي قليلُ الحيلةِ الذي عرفوه…. بيتهُ سعيدٌ، و دكانهُ ممتليءٌ بالزبائنِ كأنها ليلةُ العيدِ، وحبُ الناسِ و احترامهمُ لهُ شديد. لم يستطيعا تمالكَ نفسيهما من الغيرةِ و الفضولِ، فسألوهُ ما السرُ يا مروان؟ قالَ: كنتم تسعون للكمالِ و الإتقانِ، و نسيتمْ أني بشرٌ و انسان، فسارعتم لاظهارِ فضلكم عليّ …. و تركتموني بلا علمٍ و لا عملٍ، و قد سكنَ قلبي الاحساسُ بالقصورِ و النقصان و الفشل. أخذتكمُ الغيرةُ و الحسدُ من رعايةِ والديّ و عطفهما عليَّ لأني كنتُ نكرةً، و كانَ لكمُا كلَ المديحِ و العرفان. رحلتمُ و تركتم ليّ كنزاً لو أدركتموهُ لما خطوتمُ خطوةَ بعيداً عن هذا المكان. تسمرتْ عينا الأخوين من الدهشةِ و الاستغرابِ. و لكن بنظرةٍ حزينةٍ و مشفقةٍ قال مروان: هو برُ والديّ و رضاهما … مفاتيحُ الرزقِ و السعدِ… أخذَ كلٌ منا ما سعى اليه، و إن اللهَ هو العدلُ و الميزان

4 Comments اضافة لك

  1. رياض وادي كتب:

    رضا الله من رضا الوالدين

    1. rawmak كتب:

      يا رب يكتب لنا رضا والدينا و لا يحرمنا برهم

  2. جعلكم الله ممن صام فاتقى .. وقام فارتقى .. ومن ينابيع الرحمة استقى .
    أسأل الله العظيم بكل ماتحمله هذه الساعات من بركة وفضل .. أن يجعلكم من أسعد السعداء .. وأن يتم عليكم النعمه والهناء .. والصحة والشفاء .. وأن يغفر لكم ولوالديكم . وكل عزيز لديكم.وان يحفظكم من كل سوء ومكروه .. ويرزقكم من خيري الدنيا والآخرة .. ويرضى عنكم رضا ليس بعده إلا الجنه .
    تقبل الله منا ومنكم الصيام* *والقيام وصالح الاعمال.. اللهم قرة عين في اولادنا .
    آمين🌹
    🍃💐

    1. rawmak كتب:

      اللهم آمين

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s