فتحَ عينيه ليغشاهما النورَ، و سابقَ الفراشَ في مرج ِالبنفسجِ، صادقَ الطيرَ و عانقَ الزهرَ، و أحبه الأصدقاء، و غارَ منه الرفاقَ لذكائه و رشاقة قده. رافقاه في كلِ مكانٍ يحرسانه بالدعاءِ. كبرَ الصغيرُ، و ضاقَ المرج على خطاه، و تطلعَ بصرُه الى ِالأفقِ البعيدِ، و تنازعه الفضولُ الى ما خلفَ الأفقِ ما عساه . و سألَ الصغارَ و الكبارَ ما يكون وراءَ مرجِ البنفسجِ ؟ منْ رآهُ؟ و لا جوابٍ شفا فضولَهُ، و لكنَ قراراً….. في النفسِ قضاه
أخذتْ تقبلُ رأسهَ و عينيه، و الدمعُ يسابقُ الكلماتِ التي ارتجفت على شفتيها: أرجوكَ لا ترحل. و نظرَ الى عينيّ أبيهِ اللتين كساهما الحزنَ و الشفقةَ على كليهما. وعدهما بالحذر، ِ و اجتنابِ رفاقِ السوءِ، و البعدِ عن كلِ ما يسوء، و طلبِ المعالى، و أن لا يقبلْ الرخيصَ و يتذكر دوماً أنه الغالي . وعدهما أن سفرَه لن يطولَ، و أن ما بنوه سنيناً لن يهدمَ و لن يزولَ . أقسمَ أن لا ينظرَ الى الوراءِ، و لكن قلبَه سألهُ أن يلتفتَ لمرةٍ واحدةٍ – تودعُ عيناه فيه والديهِ، و مرجِ البنفسجِ و كلِ الأصدقاء – لست تدري لعله وداعٌ بلا لقاء
ركضَ من مرجٍ الى جدبِ، تنشقَ عطرَ السوسنِ حين، و أخرى عطرَ الخزامى . و إمتلأِ قلبَه بألوانِ الشروقِ و غسقِ الغروبِ. هربَ من الذئاب ، و إختبأَ من وحوشِ الغابِ، و احتمى بينَ قطعانِ الخرافِ، و إلتجأَ الى حمى الحمرِ و الظباءِ. و في وادي الغزلانِ أسرتْ قلبَه غزالةً ممشوقةَ القدِ، كحلاءَ العينين، بنتُ سيدُ الوادي، و مميزةَ الجمالِ من دونِ العبادِ . شغلَ الغزالُ الشاردُ – و قدْ أصبحَ هذا لقبهُ و إسمهُ الجديدِ – أهلَ الوادي بذكائهِ و رشاقتهِ و طيبِ خلقهِ. و ظنَ أنَ الوقتَ قد ْحانَ ليكونَ له أسرةً و بينَ القومَ مكاناَ . فتقدمَ الى سيدِ القومِ يسألهُ شرفَ الزواجِِ من الغزالة . لم يردَ سؤالهِ و لم يطلْ عليه المقالةَ . تزوجها و لكن … لا سفرَ بعد اليومِ و استطرد قائلاً: إني أحبُ أن يكبرَ أحفادي حولي و ليس عليّ لوم، و لا تغادرْ هذا الوادي إلا مع القوم . قالَ الغزالُ الشاردُ: سأعودُ يوماً الى مرجِ البنفسجِ ،و ليس في نفسي من حلمٍ أحبُ و لا أبهج ، و قد قطعتُ عهداً لستُ أنقضَه، و حبُ والدينِ تشتاقهُ النفسُ و تفتقدهُ. قالَ له سيدُ القومِ :عدْ إليهما اليومَ و لا زالتْ قدماك تستطيعان الركضَ، و دعْ لنا قرةَ عينينا تسعدُ روحنا كزهرِ الروِضِ. باتَ ليلتَه يسألُ القمرَ و النجوم َالنصحَ، و أخدَ قرارهُ مع نورِ الصبحِ . لا يحتملْ ذراعي قيداً، و إن إتسعت الأرضُ و السماءُ لكلِ الخلقِ، فليسَ في قلبي ما هو أعظمُ من حبِ مرجِ البنفسجِ و أهلهِ. أصبحَ راحلاً …… يسابقُ الريحَ، -علَ وجعُ المنى الضائعةِ يستكينُ و النفسُ يريحُ – و لكن ……. الى أين ؟ ….. الى مجهولٍ جديد
قطعَ وادٍ تلو وادِ، و عبر من نهرٍ الى نهرِ، و مضى من العمر زمنٌ و هو لا يدري. زارته الفصولُ التي لم تكن تطول، و وصل الى وادي الخيول، رأى جواداً عربياً أجمل ما رأت عيناه، له هيبةً و وقار، و الشمسُ من حسنهِ تغار، تخطو جنبه زوجةٌٌ تحارُ في وصفها الأشعار،, و يتقافزُ بينهما زوجٌ من صغار، يشرحُ مرآهمُ الصدرَ، و ينشرُ الفرحَ في النفسِ كما عطرُ الأزهار – حينها فقط ، تمني لو أن له أسرةٌ و لو أنه رزقَ الصغار. أكرمَ الأصيلُ ضيافتهُ . عجبَ الغزال الشاردُ من سلطانهِ و سطوةِ كلمتهُ، و مهابةِ جانبهِ، و طيبِ معشره. تاقتْ نفسهُ إلى العودةِ .. إلى الرجوع الى وادي البنفسجِ، و عَذّب الشوقُ قلبهَُ و أوجع. سأل الأصيلَ عنْ أقربِ سبيلٍ للعودة إلى الديار .قال : الطريقُ الأقربُ هي الأخطرُ، و الأبعدُ هي الأصعبُ . قالَ الغزالُ و في لهجتهِ ثقةً : بلْ الأقربُ أرغبُ . قالَ الأصيلُ : خلفَ ذاك الجبلِ نهرٌ إياك أن تغوص فيه قدماكَ الا أكلك التمساحُ و غير لون الماءِ دماكَ، فإن قطعته ناجياً فتلك أرضُ الحمرِ المخططةِ، إن استطعتَ أن لا تمضي بينهم ليلةً فإفعل، فهم قومٌ شديدو الخصامِ، لا يتفقون على مقامٍ أو مقال، و إياك ..إياك أن تكون بينهم فيصلاً أو حكما، و إياك أن تقاتلَ معهم في حربٍ ليس لك فيها ماءاً و لا كلأَ . قالَ الغزالُ : أهذا كل شيء؟ قال الأصيلُ : و يأتيك جبلُ الضباعِ , كل من وصله اختفى و ضاع، و لكن الجانبَ الغربيَ هناك الجبلِ حجرهُ صفوانٌ أملسُ، و إن قدحته ببعضٍ منه نارهُ أولع، و ليس على الضباعِ من النارِ … ما هو أشدُ و أهلع. فإن نجوت فإنزلْ الجبلَ خفيفاً، و أرهفْ السمعَ، و رافقْ الأرنبَ، فهو لخطى الليثِ أسمع، و إجري في متسعِ الهضبِ، و تجنبَ السيرِ في الظلِ و تحتَ الشجرِ، فبينَ غصونها يختبيء عدوكَ، و يخونك سمعكَ و بصرك. حين ذاك ليس بينك و بين وادي البنفسج سوى النهرُ تجتازهُ
طابَ الحديثُ و أَنُس السحر، و استأذنهم بالغيابِ القمر، و غشى النومُ أعينهم وإستقر. و أفاقت الكائناتُ على النورِ، و الثغرُ باسمٌ و الوجوه علاها السرور، و أرادَ أن يسألَ الأصيلَ عن أسرارِ الغابةِ و الكائنات، و لكن خبراً أتى به الناظرُ – و هو حصانٌ يعلو الجبلَ يحرسُ الوادي و الطريق يناظر- البشرُ الأشرارُ قاربوا على الديارِ، و في التوِ .. أخذَ الأصيلُ القرارَ: علينا الرحيلَ و لا إنتظار. التفت الى الغزالِ الشارد ِو قال :عدْ الى وطنك الآن … و إمض الى طريقك بلا توان. عجبَ حين أمرَ الأصيلُ القومَ بالإختباءِ في كهفٍ مخفٍ في الجبلِ، و أمرَ اثنينَ من رفاقهِ بالذهابِ لمواجههِ البشر
أرادَ أن يعرفَ مكانَ الكهفِ، و أن يشهدَ ما يصيرُ اليه حالُ الأصيلِ، و قد علمَ أنه يريدُ أن يشّغلَ البشرَ عن مكانِ الكهف ليحمي القطيع .. و إن كان هو الفداءُ و الثمن. رافقَ الركبَ إلى كهفٍ في عمقِ الجبل، و تلاشى كلُ صوتٍ، و لكن صوتَ الخوفِ و الترقبِ أعلى من أن تحتمله أذناه، فغادرَ الكهفَ يجري يسابقُ الريحَ الذي بدأ يقتلعُ صغارَ الشجر، و بدأ المطرُ بالنزولِ، و الرعدُ غاضبٌ و نذيرٌ بمصيبةٍ أكيدةِ الحصولِ . و فجأة توقفَ المطرُ، و سكنَ الكونُ سكوناً غريباً، و علا من بعيدٍ خيطُ دخانٍ، أخذ يقترب، منه في حذرٍ , و إشتمَ رائحةً ذكيةً، و سمعَ أصواتٍ ضاحكةٍ و بالنصرِ منتشيةٍ
تلصصَ خُفيةً، و اذ بالأصيلِ جراحه تدمي، بالسلاسلِ مقيداً .. كسيرَ القلب، منكسَ الرأسِ . أحسْ به الأصيلُ و رفاقهُ، و نظرَ اليه غاضباً .. أيها الشاردُ : إن الفضولَ سهمٌ قاتلٌ .. أترى ذلك الشواءَ .. و الرائحةَ الذكيهَ التي تملأُ الفضاءَ .. ؟ انها لحمُ غزالٍ .. ابتعد عن قطيعهِ بضعَ خطواتٍ، و ما الهلاكُ إلا من صغارِ الزلاتِ، فإرحلْ إلى طريقِ النهرِ، و إياكَ أن تعودَ إلى الوادي، فالمطرُ توقفَ عن الهطولِ، و ستتركُ خطواتكَ أثراَ لن يزول …و حينها يتبعكَ البشرُ إلى كهفِ الخيول. إرحل قبل أن تمسي ذليلا ً أو مأكول. لم يعدْ يحسُ بقدميهِ كيف تركضان، و لم يعد يرى سوى أفقاً فسيحاً أزرق … ليس يدري أفي خوفهِ … أم شوقهِ .. الى الوطن يغرق
وصلَ الى قمةِ النهرِ، وقد نالَ منه التعبُ، و بدأتْ الشمسُ تودعُ السماءَ، تلملمُ ألوانَها التي امتزجتْ مع بعضها على سطحِ الأفقِ الذي تثاقلَ من وهجها فآثرَ أن يلبسَ عباءةَ الليلِ . قفزَ برشاقةٍ من صخرةٍ الى صخرةٍ، و أوشكَ أن يصلَ الى جانبِ النهرِ الآخر، و لكنَ الصخورَ تباعدتْ أكثرَ من أن تستطيعَ قفزاتهُ الرشيقةَ أن تجتازها. كانَ عليه ان يهبطَ النهرَ قليلاً ليستطيعَ الوصولَ الى الجانبِ الآخرِ، و لكنه لا زالَ يذكرُ نصيحةَ الأصيل( إياك أن تغوصَ النهرَ قدماك و إلا أكلكَ التمساحُ و غيرَ لونُ النهرِ دماكَ ) كان عليه أن يجازفَ بالقفزِ بكلِ ما لديه من طاقةٍ، و فجأة و كأنَ دعاءًا من البعيدِ فتحَ له من الفرجِ طاقةً – جذعُ شجرةٍ يقطعُ النهرَ بسرعةٍ هائلةٍ- قفزَ عليه و لأقربِ صخرةٍ الى الشاطيء قفزَ و قدْ ظنَ أنه نجا، و لكنْ قدمَهُ انزلقتْ عندَ الصخرةِ الملساءِ و إلتوتْ. ملأهُ الخوفُ و أخذَ يقفزُ بسرعةٍ و قد سمعَ صوتاً غيرَ صوتِ الماءِ المتدفقِ و ليسَ يدري كيفَ لامستْ قدماه رمالَ اليابسةِ و قدْ تقطعتْ أنفاسهُ اليائسةِ . التفتْ خلفه الى الماءِ و رأى التمساحَ و في عينيهِ الحسرةِ البائسةِ . جرَ قدمهُ جراً و الألمُ يسرقُ الباقي من أنفاسهِ و الى ظلِ الشجرةِ سقطَ مغشيا ًعليه
أفاقَ على جلبةٍ و صراخٍ و نهيق، و عراكٍ و تناوشٍ و زعيق. ملءَ نفسهُ الخوفَ و قلبه الإمتعاضَ و الضيق. أنت بأمانٍ لا تقلقْ، لقد وجدناك الصباحَ تحتَ الشجرةِ مغشيًا عليك، قالَ الحمارُ العجوزُ. حكى الغزالُ حالهُ و ما جرى له . بادرهُ العجوزُ :دعنا نعالجُ قدمكَ و لنرَ قوتكَ و صبرك . لمْ يفهمْ الغزالُ معنى الكلامِ حتى رأى الحمارَ قامَ من مكانه، و أحضرَ عصاً طويلةً، و مدَ عليها قدمهُ المصابةَ العليلةَ، و وقفَ الحمارُ منتصباً و رفع إحدى قوائمهُ عالياً و هوى بها على قدمهِ المصاب، و ضربها ضربةً كانت آخرَ ما أحسَ به و عن الوعي غاب. فتحً عينيهِ على منظرِ حماريين يتقاتلان، و العجوز ُبجانبه يتفرجُ بهدوءٍ، و قد خلتْ عينيهِ من أيّ تعبيرٍ أو استنكار. و قطعَ عليه حبلَ الأفكارِ سائلاً : كيفَ قدمكَ الآن ؟ أحسَ بالفرحِ يملأُ قلبهُ و قد ولى الوجع. الحمدُ للهِ لقد شفيت، ردَ الغزالُ. يجبُ أن تبقى جالساُ لثلاثةِ أيامٍ حتى يكتملَ الشفاءُ، قالَ الحمارُ العجوزُ. و سأله ما بالُ الشجار ُيملأُ الساحْ و الزعيقُ آتٍ منْ كلِ ناح . قالَ : ليسَ بينا كبيرٌ عندهُ الحكمةَ، و الصغارُ كلٌ لهُ مطمعٌ و رأيٌ و كلمة، و ما منْ حكمٍ أو فيصلٍ بينهم إلا قتلوهُ أو للضباعِ تركوه، لا يجمعنا إلا الخوفُ . أمضى ليلتهُ الأولى و قد ضاقَ ذرعاً من النزاعِ، و أثقلَ رأسه الصداعْ. و صحا فجأةً على نهيقٍ غريبٍ كأنهُ بوقُ نذيرٍ بالحربِ وشيكةٍ، و تحذيرٍ بمصيبةٍ أكيدة. أتى الضباعُ، و القومُ التصقوا ببعضهمْ كصفٍ واحدٍ كأنهم لوحهٌ من أبيضٍ و أسودٍ كأنَ الأفقَ الأزرقَ خلفهم أختفى و ضاعْ. بدأتْ الحمرُ بالجريِ فجأةً … و أثاروا الغبارَ كعاصفةِ الصحراء. أدركَ أنهمْ تركوهُ وليمةً للأعداء. وثبَ يجري و الضباعُ تلاحقه، و الأفكارُ أسرعُ من قفزاتهِ الى الجانبِ الغربي من الجبل. كان عليه أن يعي خطواتَهُ ألا تنزلقَ على الصخرِ الأملس، و لكنْ ذلك لم يكنْ كل ما يخشى، و قد حاصرتهُ الضباعُ ،و أدركَ أن حلمَ العودةِ للوطنِ ضاعْ
منهكَ القوى و قوائمهُ ترتجفُ، و على قمةِ الجبلِ نظرَ مودعاً الفضاءَ الرحب، لكن ذكرى اشتعلتْ في رأسهِ أولعتْ ناراً من الشجاعةِ في قلبهِ تذكر نصيحةَ الأصيلِ( و يأتيك جبلُ الضباعِ، كلَ من وصله إختفى و ضاعْ، و لكن الجانبَ الغربي من الجبلِ حجرهُ صفوانٌ أملس، و إن قدحته ببعضٍ منه نارهُ أولعْ، و ليس على الضباعِ من النارِ ما هو أشدُ و أهلع). قدحَ الصخرَ الأملسَ بصخرةٍ صغيرةٍ، أشعلتْ النارَ في الشجيراتِ اليابسة، فجفلتْ الضباعُ، و لكنَ هديةَ أخرى حلتْ من دعاءٍ بظهرِ الغيبِ .. أجابتهُ السماءَ، فمنِ جحرٍ قريبٍ تحتَ الشجيراتِ المشتعلةِ .. قفزَ أرنبٌ فتىٌّ صغيرُ و ركضَ مسرعاً، و قفزَ منْ حافةِ الجبلِ إلى الجبلِ الآخرِ، كأنما طارَ في السماءِ. لم يفكرْ الغزالُ لحظةً- و قدْ انطفأتْ النارُ، و أقبلت الضباعُ نحوهُ- كيفَ إلى السماءِ طار.. و لكنَْ ليسَ لقمِة الجبلِ الآخرْ … بلْ إلى قاعِ الوادي
دوائرٌ صفرٌ و حمرٌ و زرقٌ و خضرُ، لولا الألمُ في رأسهِ لظنَ أنه يتأرجحُ في قوسِ قزحٍ . فتحَ عينيهِ و لكنِ ستائراً من النورِ الضبابيةِ حجبت ما حوله عن الرؤيا، و لكنه أحسَ بيديهِ و قدميهِ تتأرجحان في الهواءِ و تصدمان كلَ مرةٍ بشيءٍ صلبٍ، فيرغمهُ الألمُ على أن يغمضَ عينيه ثانيةً. و ما أنْ أغمضَ عينيهِ حتى أشرعتْ ذاكرتهُ عن المشهدِ الأخيرِ الستائرَ، حينَ قفزَ من قمةِ الجبلِ هرباً من الضباعِ، و قد كانَ السقوطُ من علٍ آخر ما يذكر. فتحَ عينيه ليدركَ أنهُ معلقٌ على شجرةٍ ليس بينها و بين الأرضِ إلا قفزةً واحدةً. “اضغط بجسدكَ على فرعِ الشجرةِ بكل ما أوتيتَ من قوةٍ” الصوتُ آتٍ من أسفلِ الشجرة، ذاك الأرنبُ، هو نفسُ الأرنبِ الذي سبقه في القفزِ من قمةِ الجبل. استعجلهُ الأرنبُ قائلاً: أسرعْ الوقتُ يمضي و عدوك سريعاً يأتي، و لا تتردد ْو إفعل ما أقول و عليك بسرعةِ النزول و مغادرةِ هذه السهول، قبل أن تولي شمسُ النهارِ و تزول. ألقى بكلِ القوى الباقيةِ في جسدهِ المتألمِ على الغصنِ الذي انكسر فسقطَ على الأرض يأنُّ من جراحهِ. لأولِ مرةٍ يبكي نفسَه، و يبكي قوته و شبابه، و يسألُ نفسهُ فيما أفناه و أذابه
تذكرْ قولَ الأصيلِ (و رافقْ الأرنبَ، فهو لخطى الليثِ أسمع , و إجري في متسعِ الهضبِ، و تجنبْ السيرَ في الظلِ و تحت الشجرِ، فبين غصونها يختبيء عدوك، و يخونك سمعكَ و بصرك. و حين ذاك ليسَ بينكَ و بين وادي البنفسجِ سوى النهر تجتازه). تمنى أن يمضى هذا اليومُ من عمرهِ سريعاً، و أن لا يكونَ هذا اليومُ آخرَ عمره. حثهُ الأرنبُ على الركضِ السريع الذي لم تعدْ -قدماه اللتان قطعتا الفيافي و الديار عدواً كأنها نزهة – أن تسرعا أكثر. أرادَ أن يستريحَ تحتَ ظلِ الشجر، و لكن الأرنبَ حذره من ذلك، لئلا يحملَ الأثيرُ رائحته الى الليثِ، فيجدهُ بين برهةٍ و انتباهتها إلى حتفهِ أقرب. ركضَ و ركضتْ الصورُ التي ركنها في قاعِ الذاكرةِ طويلاً، تترآى له تثيرُ في نفسهِ البكاءَ حيناً، فتهتزُ الطريقُ أمام ناظريهِ، و حيناً تملأُ نفسَهُ بالفرحِ و روحهُ بالنشاطِ و القوةِ، فيحسُ كأنما الطريقَ تطوى من تحتِ قدميه طيا. صورُ الصغيرِ الذي يتنقل راقصاً بين والديهِ، و في عينيهما ألفَ متفرجٍ يشجعهُ، و يستحلي رقصهُ، و يتذكرُ حضنهما الدافيء عندما يعانقانه سويا ًعند المساءِ، فينامُ و لا زالت قبلاتهما تحكي له كلَ قصةِ حبٍ سطرتْ على هذا الكوكبِ، و يرى أول ما يرى النورَ في عينيهما اللتين تهديان قلبهُ كل فرحٍ و بشرى بنهارٍ كلهُ حبٍ و أمل. أتراني أعود؟ … أتراني أصلُ الى أرضِ البنفسجِ سالماً ؟ أتراهما لا زالا أحياء ؟ قطعَ عليه الأرنبُ شريطَ الذكرى، و قال :يجبُ أن نتوقف عند طرفِ النهرِ لنأكلَ و نرتاح و بعد ذلكَ عليك قطعُ النهرِ و العودةُ الى ديارك
وصلَ الى حافةِ النهرِ يجرُ قدميه جرا، و قدْ تسارعتْ أنفاسهُ، و تكادُ ستائرُ أجفانه تنسدلُ على المشهدِ الذي لمْ ينتهِ بعد. نهاهُ الأرنبُ عن الاستسلامِ، و حثهُ على مواصلةِ مشوارهِ الذي شارفَ على نهايته. لم يعدْ يسمعُ أو يرى و قد غلبَ عليه التعبُ .. و إلى النوم انتهى. استيقظ على صوت الريحِ الغاضبِ، و على تدفقِ النهرِ الصاخبِ، و على صوتِ الطيرِ الخائفِ، و لأعشاشهِ و نومهِ الهانيء مودعٌ هارب. أدركَ أن عدوهُ قريبٌ و مباغت، تاهتْ خطاه و اضطربْ منه الفكرُ، و قد أسدلَ المساءُ رداءه الثقيل، فلم يعدْ يبصرُ الطريق، و قد أمسى وحيداً دون رفيق. ليتني أخذت بنصيحةِ الأرنب! و ما على الماضى أندم و لكن على مطاوعةِ هوى النفسِ أعتب! قفزَ بكلِ قوته، و أمسى يركض و ليسَ يدري أيّ عدوٍ خلفهُ و يركض بإتجاه صوت النهرِ. و ما إن لامستْ قدماه الماءَ ،أحس بجسمٍ ثقيلٍ يندفع فيمسكٌ بذيلهِ و مؤخرته، و لكنهُ قفزَ قفزتهُ التي أدركَ أنها الأخيرةُ قبلَ النجاةِ أو الهلاك. سمعَ زئيرَ الليثِ و قد إنزلقتْ رجله في النهرِ، فأرخى قبضته عن مؤخرةِ جسده. فأخدَ يقفزُ من صخرةٍ لأخرى، و يرتمي مع الماءِ الجاري المتدفق تارةً ثانية إلى أن لامستْ قدماه الجانبَ الآخرَ من النهر
أحس ببردٍ شديدٍ انتفضت له كل سُلامةٍ في جسدهِ من الألمِ، فرفعَ رأسهُ للسماءِ بالدعاءِ : يا ربِ إرحم جهلى، و مطاوعتي هوى نفسي، و غروري بقوتي و شبابي و اجمعني بوالديّ . و غاب الجسدُ مع الألمِ، و غابَ الوعي مع شدةِ الندم، و أفاقَ على رائحةِ البنفسجِ تداعبُ أثيرَ الصبحِ الذي لبسَ ثوبَ النور. إستيقظ كلُ ما فيه من الفكرِ و الذكرى و الأماني … كما الألم .نظرَ إلى جسدهِ مذعوراً من كثرةِ ما به من جراحٍ لا زالت تدمي، و لكنْ ما أوجعَ قلبهُ أكثرَ .. ذيلهُ الذي إختفى جزءاً منه بينَ أنيابِ الليث. بكى كيفَ غادرَ المكانَ يملؤه الخيلاءُ و هو الرشيقُ الخطى جميلُ القدِ،عادَ اليومَ كسيراً ًجريحاً و مشوهاً. تعالتْ أصواتُ الكائناتِ من كلِ جانبٍ. نهضَ يجرُ الخطى، و شارفَ على التلِ، و إمتلأتْ عيناهُ بالدمعِ حين رأى الغزلان الجميلةِ التى تناثرتْ في كلِ مكانٍ كفراشِ الربيعِ، نزلَ التلَ .. و لكنَ الغزلانَ كانت اليه أسرعُ .. ترحبُ بعودتهِ إلى الديار
تباعدتْ صفوفُ المرحبين لقدومِ الغزاليين العجوزيين. لم يصدقْ عينيه أنهما لا زالا أحياء، إحتضناه في صمتٍ طويلٍ خيمَ على كلِ الأرضِ و السماء. و لما هطلَ الدمعُ من عينيه قالتْ له أمهُ: بكينا من العمرِ زمناً طويلاً ..و حانَ دوركَ للبكاء و اكملت: يا ولدي إبكِ ان شئت، فلو كانتْ الدموعُ تمحو الخطايا لما ترددَ كائنٌ عن ارتكابِ الذنوب و الدنايا، و لكنكَ عدتْ و في قلبِ الوالدين متسعُ للمغفرةِ. إقتربَ منه غزالٌ فَتِيٌّ صغير .. سكن شهابٌ ثاقبٌ في عينيهِ، كان قد إستقر في قلبهِ ذاتَ يومٍ، و سأله في فضولٍ: ما يكونُ خلفَ مرجِ البنفسجِ من أسرارٍ و حكايا.. ما عساه؟ قالَ له الغزالُ العائدُ: أرضٌ جميلةٌ لا يمكن أبداً أن يكونَ لك فيها مستقر… و خلفَ كلِ خطوةٍ عدو ينتظرْ … وعند المنعطفِ صحبٌ ينبذونك عند الخطر. و أنْ منْ يتركَ بإختيارهِ الوطنُ لابد أنْ يدفعَ الثمنَ من راحةِ البالِ و صحةِ البدن ……. و ندمٌ لا يمحوهُ الوقتَ و لا الزمن