انسلَ بصرهُ رويداً … رويدا مع عجينةِ الصلصالِ التي بدأتْ تنسالُ من بينِ أصابعهِ، امتدتْ يدهُ الآخرى لاشعورياً لتلقفَ العجينةَ بحنانٍ قبلَ أن تسقطَ على الطاولةِ الخشبيةِ الخشنةِ المتسخةِ. لماذا تذكرَ ابنهُ ياسر ذي الأربع سنوات الآن ؟ …أّ ..لأنهُ عجزَ هذا الشهرُ عن تغطيةِ نفقاتِ أسرتهِ الصغيرة. نعمَ عجزَ عنْ دفعِ أجرةَ الدكانِ الصغيرِ الذي حولهُ الى محجرٍ منذُ عشرَ سنواتٍ و لا زالَ يجاهدُ ليحافظ َعليه مفتوحاً، و دونَ أن يدري كيفَ عصرتْ يداه تلكَ العجينةِ -التي عاشتْ بينَ يديهِ بأمانٍ و حنانٍ للحظاتٍ- بقسوةٍ فتفلتتْ هاربةً مذعورةً من بين أصابعهِ، و ارتطمتْ بسطحِ الطاولةِ المشققِ بعنفٍ، فتفتتْ أجزاءً صغيرةً و تناثرتْ في كلِ مكان
أحسَ بأفكارهِ و مشاعرهِ تتناثرُ مع تلكَ الفتافيتِ من عجينةِ الصلصال، و فجأةَ انتابهُ شعورُ غريبُ فتساءلَ: أذلكَ أنا … من تفتتْ ؟ ألستُ كما تلكَ العجينةِ من صلصالٍ؟ ياه …لجبروتكَ و غروركَ … و ياه لضعفكَ …و قلةِ حيلتكَ يا ابن آدم… همهمَ محدثاً نفسهُ مستنكراً: يا لهذهِ المتناقضاتِ … نهضَ منْ على كرسيهِ ينتابهُ شعورٌ بالغرابةِ و الكآبة. نظرَ الى الرفِ الذي اصطفتْ عليه الآنيةِ و القدورِ و الزهرياتِ و أصصِ الزرعِ التي يجبُ أن ينجزها و يسلمها للمشتري بحلولِ مساءِ اليومِ، و خاطبَ نفسهُ بصوتٍ عالٍ: لا وقتَ للفلسفةِ و التفكير .. هزَ رأسهُ و أردفَ قائلاً: ليسَ لرجلٍ مثلي
أشعلَ الفرنَ الطيني القابعِ بزاويةِ المحجرِ، و بدأَ بخبزِ الأواني الواحدَ تلو الآخرِ، كما يُخبزُ رغيفُ العيشِ الذي يجاهدُ ليلاً و نهاراً ليوفرهُ لأهلِ بيته. تاهتْ عيناه مع وهجِ النارِ و ألوانها الساطعةِ كشمسِ الصبحِ العذراء التي لا زالت تتوارى خجلاً خلفَ عباءةِ الليل. و قفزَ بين عينيه التائهتين سؤالٌ: النارُ تصقلُ الطين َكما تصقلُ الذهبَ و تجعلهما أكثرَ صلابةٍ … و نعومةٍ .. ترى .. ما يصقلُ الرجلُ منا؟ … أهي معاناتهُ التي تلهبُ قلبهُ بالمخاوفِ و تشعلُ نارَ الفِكَرِ و القلقِ في عقله؟. جلسَ متعباً عَّلَ أفكارهِ تبردُ قليلاً ريثما يبردُ الصلصالِ ليتمكنَ من طلائهِ بالألوان. بدأَ بخلطِ الألوانِ و صفها على الطاولةِ، و قالَ و هو يزفرُ الحروفَ من بين شفتيهِ متعباً: قليلُ من الألوان تجملُ الأشياءَ و تخفي ما بها من عيوب. أفاقَ من عالمهِ الصغيرِ ما بينَ الطينِ و اللهبِ و الألوانِ على صوتِ الصغيرِ ياسرالذي اندفعَ الى داخلِ المتجرِ راكضاً و يديهِ مشرعتين- كعصفورٍ صغيرٍ بكادِ تعلمَ الطيران- الى حضنِ أبيه الذي التقطه طائراً به على امتدادِ ذراعيهِ ليهبطهُ بسلامٍ على احدى ركبتيهِ
غسلَ صوتها الحنونُ صدرهُ مما ولجهُ من دخانٍ و غبارٍ و فِكَرْ…. حينَ بادرتهُ بالقولِ: يعطيك العافية يا أبو ياسر، و أردفتْ قائلةً: كيفَ يومكَ عساهُ… يومٌ طيب ؟ نظرَ اليها باسماً وطالعَ سلةَ الطعامِ التي وضعتها على الكرسي الخشبي، قَبَّلّ الصغير الذي لف ذراعيه حول رقبة أبيه بحنانٍ و رفقٍ و قالَ: الحمدُ لله يومٌ به كثيرٌ من الألوان. نظرتْ الزوجةُ الى الألوانِ التى غطتْ يديهِ و ملابسهِ و ابتسمت
قطعة كتابية جمالية 👍