أمنية

peacock dress1

أمسكتْ يدَ طِفلتها الصغيرةِ ذاتَ السنواتِ السبع, كأنما تمسكُ قطعةً من الثلجِ و قالت بصوتٍ يغالبهُ التشنجُ: إبق ِبجانبِ أخيكِ الصغير و راقبيه جيدا ً, سأحضُر الطعامَ و أعودَ فورأ, نظرتْ إلى الصغيرِ الذي لم يتمْ السنةَ من عمرهِ و قد إزرقَ وجههُ من البردِ بالرغمِ أنها لفتهُ بكلِ ما لديها من ثيابٍ.أزاحتْ بابَ الخيمةِ الذي تلاعبهُ الريحُ شمالاً و يميناً فيدخلُ منه البردُ و المطرُِ بلا إستذانٍ .الهواء ُليسِ أبردُ كثيراً مما هو داخلُ الخيمةِ التي تحملُ إشارةَ وكالةَ الغوثِ الدوليةِ للآجئين الأنُروا. نظرتْ الى السماءِ التي أُسدلَ الغيمُ الأسودُ على نوافذها, و حُجب نورُ نهارٍ لم يبدأ بعد. أسرعتْ الخطى تظنْ أنها سبقتْ غيرها إلى مركزِ المعونات, و لكنها فوجِئت بالطابورِ الطويل ِمن الرجالِ و النساءِ, الذينَ ذبلتْ عيونُهم النصفُ مفتوحةٍ من قلةِ النوم ِو تقشفتْ شفاهُهم من البرد ِو تراقصتْ أطرافُهم بحركاتٍ عفويةٍ و غريبةٍ من الألمِ و طولِ الوقوف. إنضمتْ الى طوابير ِالصمتِ و الذلِ و القهر .نظرتْ الى البطاقةِ التي في يدِها و عليها الرقمِ ذي الستِ خاناتٍ , و تساءلتْ و هي تنطرُ الى العددِ الكبيرِ من البشرأمامها و تمنتْ أن يأتي دورُها قبل أن يصحو الصغيرُ ويغادرُ الفراشَ الى البردِ أو الضياع ِخارجَ الخيمةِ التي أتوها بالأمسِ هرباُ من جحيمِ الحربِ في حلب و قد قُصفَ البيتُ و رحلَ رجالهُ خلفَ دخانِ القنابلِ إلى غيرِ عودٍ

فُتحَ بابُ المركزِ القابعِ على الحدودِ بين لبنان و الشام , و نادى رجلُ أجشَ الصوتِ يطلبُ من الناسِ الهدوءْ و قد زمجرت أصواتُهم من البردِ و الجوعِ و سألَهم إلتزامَ النظامِ ليتمكنوا من توزيعِ الطعام ِو الثيابِ عليهم بسرعة. ليسَ تلبيةً للنداءِ و لا إلتزاماُ بالنظامِ ولكنْ  تحتَ وطأةِ الحاجةِ و قلةِ الحيلة صمتوا. لم تعدْ سعادُ  الخياطة تسمعُ سوى الأنينَ و الآهاتِ التي أشعلتْ النارُ في القلوبِ فزفرتْ دخانها خارجَ الأفواه ِالمفتوحةِ من هولِ المشهدِ كما البرد. و نادى المنادي بإسمِها فأسرعت تركضُ نحوهُ و تناولت الكيسين من يديهِ كأنَها تختطفهما منهُ إختطافا, إستوقفها الرجلُ بفظاظةٍ حين همتْ بالركضِ و قالَ ساخرأ : وقعي هنا ثمَ إذهبي حيثُ تريدين. توقفْت أنفاسُها للحظةٍ و نظرتْ حولها. وقفت بذهولٍ و قالت للرجلِ: ليتَ كانَ لي خيارٌ أو إرادُة  للذهابِ لغيرِ هذا المكان . إهتزْ الصفُ الطويلُ و ترنحَ كأنه موجةُ بحرٍ لم تجدْ شاطئاً تنتهي إليه. ركضتْ و ركضتْ, و فتحتْ بابَ الخيمةِ و إقتربتْ بهدوءٍ الى وسطِ الخيمةِ الرطبةِ و إذْ بالصغيرين نيام ,فحمدتْ الله. فتحتْ كيسَ الثيابِ قبلَ كيسِ الطعامِ , أملاً أن تجدْ ما تلبسهُ للصغيرين أو ما تغطيهِ بهما

بحلقتْ عيناها من الدهشةِ و كادً قلبها يودعُ النبضَ, إمتدتْ يداها تسحبان ثوبَ المخملِ الأسودِ  المطرز ِبالدوائر ِالملونةِ على شكلِ الطاووس , فستان ٌذو ياقةٍ مرفوعةٍ و أكمامٍ طويلةٍ مطرزة, تلمستْ يدُها الغرزَ المطرزة ِالتي تعرفُ عددَها و ألوانَ خيوطهَا و قدْ طرزتها بيدها .لقد إحتضنت هذا الثوبَ لثلاثةِ أشهرٍ متتالية.ترآى لها صالحُ و هو ينظرُ اليها بعينيهِ نظرةً غريبةً لم تفهمْ معناها و لم تدركْ مغزاها ذاك الوقت ..حينَ قالت له: لقد أتتْ الست أم قاسم الآتيةِ من الخليجِ العربي ,و إستلمت الفستانَ و أعطتني مئتي ليرة ٍو قالتْ أنَها لم ْترَ أبداً أجملَ و لا أدقَ من تطريزي لثوبِ خطوبةِ إبنتها. و إستطردتْ سعادُ و قالت: يا الله يا صالحُ لو رأيتَ هذا الفستانَ,  القماشُ مخملٌ من فرنسا و الخيوطُ حرير ٌمن الصين و التصميمُ من إيطاليا. يالله الدنيا أرزاق! يا ربِ عقبال عندنا ،و غمزت بعينِها في حسرةٍ . قال لها صالحٌ إبنٌ خالتها: تزوجتيني و تعرفين أني نجارٌ أعملُ مع أبي و إخوتي و لنْ أتركَ أهلي و لا صنعتي و كفي عن التذمرِ، و اشكري الله على نعمهِ التي لا تحصى. أدارتْ عينيها في أرجاءِ الغرفةِ كأنما تبحثُ عن شيءٍ مفقود …  ثم نظرتْ إليه عيناها كأنما تجيبُ: لا أجدُ ما تقولْ.  أدارَ وجههُ إمتعاضاً و لكنها أكملتْ: يا الله ما أجملَ هذا الثوبَ ! لقد طرزتهُ و إحتضنتهُ لثلاثةِ شهورٍ , و لم أتمنَ شيئاً قدرَ ما تمنيتُ إرتداءَهُ و لو للحظهٍ ،و لكنَ المعلمةَ صاحبةُ المشغلِ كانت تراقبني طوالَ الوقتِ ،و تأخذهُ مع نهايةِ اليوم ِو تغلقُ عليه الخزانةَ. قال لها : يا سعادُ أحسني الأماني فلا أحدَ يعرفُ ساعةَ الإستجابة. إنتفضَ جسمُها و إعتصر الألمُ قلبها . الآن فقط عرفتْ معنى النظراتِ التي طالعها فيها زوجُها … هي نظراتُ الإشفاقَ …. و تسآلت و الدمعُ يكوي قلبَها و يحرقُ عينيها: هل رأى صالحٌ ما سيؤولُ إليه حالَها ….. !! بكتْ و بكتْ  … و رفعتْ يدها لتتمنى … و لكن الصغير َأفاق يبكي, فأسرعتْ لإحتضانهِ ……فلم يعدْ من وقتٍ للأماني

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s