خيط

moziac

إنطفأتْ الأنوار ُفي عينيهِ، و أوشكتْ أجفانهُ تسدلُ ستائرَها، و جرَ قدميهِ جراً، و ألقى بجسده ِالمنهكِ علي الأريكةِ الخشبية، و كادَ يغفو في التوٍ، لولا أنْ تراءى له شخصاً يجلسُ في زاويةِ الغرفةِ المظلمةِ. إتسعتْ عيناه من الدهشةِ و فتحَ فمَه ليتكلمَ، و لكن والدَه ُبادرهُ بالتحيةِ قائلاً :يعطيك العافيةَ يا ولدي. نهضَ مسرعاً و قبلَ يديّ والدَه و ردْ: الله يعافيكَ يا أبي و إستطردَ، ما الذي أيقظك َحتى هذهِ الساعةِ يا أبي؟ نظرَ إلى عينيّ والدهِ بتعجبٍ، و نظرَ حولَه و قد أدركَ أنَ زوجتَه لم تكنْ اليومَ في إستقبالهِ كالعادةِ، و البيتُ يسكنُه صمتٌ مريبٌ. هل أمي و زوجتي و الأولادُ بخيرٍ .. ما الأمر؟ همْ بخيرٍ يا بني.. رد الأب و أضاف قائلاً: لديّ قصةَ أريدكُ أن تسمعَها.  ردَ خالدٌ : كلي آذانٌ صاغيةٌ … -و إن كانَ كلَ ما فيه يعلنُ الإستسلامَ و التعبَ- تفضلْ يا أبي. أتتْ زوجتُه بكلِ هدوءٍ، و دونَ أنْ تنطقَ بكلمةٍ بكوبينِ من العصيرِ و طبقٍ من الطعامِ ، وضعتهم على الطاولةِ بهدوءٍ و غادرتْ الغرفةَ.

ليسِ من بيتٍ في المدينةِ يخلو من قطعةٍ من نَسّجِ مصانعِه، فهو الشابُ ظافرُ، كلُ قطعةٍ ينسجها عمالهُ دقيقةٍ و جميلةٍ كأنها تحفة، لا تملُ العينُ تناظر. كان رجلاً نشيطاً، مع عصافيرِ الفجر ِيصحو، كالنحلِ دقيقاً منظماً، كالنمل ِ ذكياً مثابراً، متفتحُ العقلَ لا يملُ العلمَ و لا التعلمَ. أعطاه الله كلَ ما تمنى. أرادَ أن يتزوجَ، فقالَ له أبوهُ: لي صديقٌ في المدينةِ المجاورةِ للبحر، و عندهُ فتاة ٌفيها كلُ ما تحبُ و تتمنى، و هناك رَكْبٌ مسافرٌ بعد يومين، فرافقهم و إخطبْ تلك الفتاة. و أكملَ أبو ظافر و قالَ: إصنعْ لنفسكَ حقيبةً جميلةً و متينةً ،و ضعْ فيها المال َو الذهبَ ، و إحملها معكَ لا تستأمنْ أحدً عليها. السفرُ إمتحانٌ يا ولدي. ردَ ظافرٌ و قالَ: سآمرُ أفضلَ عاملٍ عندي بصناعتها. ردَ الأبُ وقالَ: تلكَ صنعتكُ ..أمْ نسيها …و قدْ أكرمكَ اللهُ، إنْ كنتَ ستضعُ أغلي ما لديكَ فيها .. فإصنعها بنفسِك

رغمَ كلَ مشاغلهِ، إستطاعَ أنْ يجدَ الوقتَ لينسجَ حقيبتهُ و يطرزها ،و قدْ قررَ أن ْتكونَ هذهِ الحقيبةُ رمزاً لإتقانهِ عملهِ، و دعايةً جيدةً لمصنعهِ. الوقتُ ضيقٌ و السفرُ باكرٌ و أشغالهُ لم تنتهِ بعدْ، و أمضى باقي ليلتهِ الأولى يحيكُ قطعَ القماشِ و الجلدِ بطريقةٍ جميلةٍ متناسقةٍ في غايةِ الروعة، و بدأَ يريطُ خيوطَ الوصلِ بينَ القطعِ حتى داهمهُ النومَ. أفاقَ نشيطاً كعادتهِ ، و رتبَ كلَ حاجاتهِ للسفرِ و أتى لوداعِ والدهِ الذي إستوقفهُ و قالَ: هل َتأكدتَ من حاجاتكَ. أجابَ ظافرٌ نعمْ. قالَ الأبُ: مرةً أخرى .. إذهبْ .. و تأكدْ من حاجتكَ يا ولدي. هزَ ظافرٌ رأسَهُ موافقاً، و غابَ حيناً وعادَ قائلاً تأكدتُ يا أبي. قبلَ رأسَه ِو يديهِ و إحتضنهُ بشوقٍ كأنه آتٍ من السفرِ ،و ما هو بعدُ مسافرٌ. ظلَ يسمعُ دعاءَ والدهِ و أمنياتهِ الطيبةِ حتى غادرَ البيتَ

دخلَ البيتَ و وجههُ قانطٌ، و ليسَ يدري كيفَ يخفى ما علا ملامحهُ منَ الغضبِ و الضيقِ. و بادرهُ الأبُ قائلاً: لمْ عدتَ باكراً؟ … أرأيتَ العروسَ و لمْ تعجبكَ .. لا تبتئسْ ستجدُ غيرَها. بلْ لمْ أصلْ هناكَ أصلاً يا أبي .. ردَ ظافرٌ. لقدْ فقدتْ مالي و كلَ ما في حقيبتي منْ ثمينٍ و غالِ … قالَ الأبُ :هلْ … و قاطعهُ ظافرٌ: أنا منْ أضاعها يا أبي فقدْ وجدتُ الحقيبةَ فارغةً، و لا عجبَ فقدْ كرتْ غرزُها تباعاً دونَ أنْ أدري .. فقدْ شَغلّتُ نفسي بتطريزِها و تزينِها و لكني سهيتُ أنْ أحكمَ خيطَ آخرَ غرزةٍ فيها .. فكرَّتْ الغرزُ واحدةً تلوَ أخري كحباتِ عقدٍ هاربةٍ ، فانُقِضَّتْ أوصالها

إمتدتْ يدُ العجوزِ الي كيسٍ بجوارهِ ،و قالَ لإبنه بحنانٍ: ذلكَ درسٌ لكَ يا ولدي. إنْ صنعتَ شيئاً لنفسكِ، فلا تفكرْ في الآخرين، و أحسنَ الصنيعَ فأنتَ لنفسِكَ أفضلُ معينٍ. و تذكرْ يا ولدي ليسَ الكمالَ و الجمالَ في الغرزة وحدها بلْ في مجموعِ القطعِ ،و ما بها من قوةٍ و تماسكٍ. العملُ بالنتيجةِ يا ولدي .. و غرزةٌ ضعيفةٌ كادتْ تضيعُ تعبَك و جهدَك السنين . فتحَ الأبُ الكيسَ، فعرفَ ظافرٌ مالَه و ذهبه و حاجتَه، و بدتْ ملامحُ الدهشةِ و التساؤلِ على وجههِ. قالَ له أبيهِ: تفقدتكَ بعد أن نمتَ، و تفقدتُ الحقيبةَ، و رأيتُ أنكَ لمْ تحسنْ لفقَ آخر خيطٍ يربطُ قطعَ الحقيبةِ معاً، و أدركتُ ما سيحصلُ، و لكني أيضاً أدركُت أنه درسٌ لا يمكنني أنْ أحرمكَ خلاصتهُ. و أكملَ الأبُ :و أرسلتْ رجلاً معِ القافلةِ، و أمرتهُ بمتابعتِك. إنحنى أمامَ أبيهِ بصمتٍ، و الفرحُ يقفزُ منْ بينِ ضلوعهِ و قالَ: أستاذي و مالي و ذهبي أنتِ يا أبي

نظرَ خالدٌ لأبيهِ ،و قدْ طارَ النومُ من عينيهِ ،و قالَ :قصٌةٌ جميلةٌ يا أبي  … و لكنَ الأبَ  قاطعه قائلاً: أتى إبنكَ الصغيرَ اليومَ يبكي و يقول .. أشتاقُ لأبي كثيراً يا جدي، فأنا أمضي وقتاً مع رفاقي أكثر َمنه.ُ قلتُ لهُ يعملُ جاهدًا لتعيشَ منعماً يا صغيري. قالَ الصغيرُ: لا أراهُ إلا مشغولاً أو عابساً ، و لا أستطيعُ الحديثَ معه. أمسكَ الأبُ يدَ خالدٍ و قالَ: لا تَشّغلْ حياتكَ كما شّغَلَ ظافرُ حقيبتَه..غرزةٌ واحدةٌ ضعيفةٌ … تفقدكَ كلَ ما تعملُ جاهداً لتملكَه .. الأسرةُ لا يبنها المالُ يا ولدي ،و لكن بالوقتِ الذي تمضيه مع أهلكِ بحبٍ و سعةِ صدرٍ. ألقى خالدٌ برأسهِ على فخذِ أبيه، و قالِ:أستاذي و مالي و ذهبي أنتَ يا أبي. إمتدتْ يدُ الأبِ تربتُ على كتفِه … بحنانٍ حيناً .. ليدركَ بعد قليلٍ .. أنَ خالداً قدْ نام

One Comment اضافة لك

  1. hadooleh69 issa كتب:

    رائعة معبرة وهادفة 🥀

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s