وقفتُ أمام َاللوحةِ البيضاءِ التي نادتني أن أنقذها من الوحدةِ الكئيبةِ حيثُ تلاشى وجودها بجانبِ حائطِ الغرفةِ الأبيض. أمسكتُ بيدي الفرشاةَ و ليس لديّ شيءٌ أريدُ أن أرسمه، تاهت عينايّ من الذهابِ و الإيابِ بين زوايا اللوحةِ الأربع. ألقيتُ الفرشاة َبجانبِ علبِ الألوانِ و أدرتُ ظهري للوحةِ، و لكنَ صوتاً ساخراً من خلفي أجبرني على العودةِ للغرفةِ ثانيةً: كنتُ أظن أنّي وحدي من يعاني من الفراغِ، وحدي من يملؤهُ فضاءٌ كالسحبِ البيضاءِ … هي ظلالٌ تحجبُ زرقةَ السماءِ بلا مطر
ليس بالغرفة غيري أنا و هي ….. وقد تحدتني أن أعودَ و أرسم َعليها ما لست أدري ،و ليس بخاطري فكرةٌ أو صورة. رسمتُ شجراً و ورداً و بحيرةً صغيرةً بها بطةٌ تسبحُ مع صغارها الصفرُ، و قد تماوجَ سطحُ البحيرةِ حولهنَ بدوائرٍ صغيرةٍ تكبرَُ كلما سارعن بالتجديفِ للحاقِ بأمهنَ كأنهنَ زهرُ البابونجِ الراقصِ على أنغامِ نسيم ِالربيع. ابتعدت عن اللوحةِ، و أسندتُ ظهري للحائطِ لأرى الصورةَ من بعيدٍ، و أتاكدَ من الأبعاد ِو الظلال. و فجأة بدأتُ بالضحكِ لأني تذكرتُ أني قد رسمتُ هذه اللوحةَ من قبل
ليسَ لديكِ من جديدٍ و قد نضبَ منكِ المعين، قالت بلهجتها الساخرة ثانية. و إن يكن -قلت في نفسي- سأصححُ قليلاً في انعكاسِ البطاتِ الصغارِو ظلالِ الماءِ، و سأذهبُ للنوم. وضعتُ اللوحةَ على الأرضِ و قد تعبتُ من الوقوفِ أمامها للساعتينِ الماضيتين كأني اردتُ أن أقولَ لها .. حانَ وقتُ النوم…. و لكنْ حينَ حملتُ علبة َالألوانِ من على الطاولةِ لأضعها بجانبِ اللوحةِ على الأرض، كنتُ قد نسيتُ أن أغلقَ العلبَ ، فانسكبتْ الألوانُ على اللوحةِ التي لا زالتْ رطبة . لم أغضبْ .. بلْ عكسَ ذلك وجدتُ فيها انسياباتٍ كأنها لغةٌ جديدةٌ و أحسستُ بأني أفهمها، و قد بدأتْ معانيها تلامسُ قلبي. بدأت أسكبُ الألوانَ على اللوحةِ بدونِ فرشاةٍ، و حملتُ اللوحةَ كالطفلِ الصغيرِ الذي تهدهدهُ أمهُ قبلَ النومِ. بدأتْ الألوانُ تتمايل على جسدِ اللوحةِ فاختفتْ البحيرةُ والبطةُ و صغارها، و تلاشتْ الغابةُ بكلِ شجرها و وردها
توقفتُ قليلاً و قد أدركتُ أني لمْ أرسم هذه اللوحةَ الجديدةَ،ْ بلْ الألوانِ قدْ خرجت عن السيطرةِ و خالفتْ نظامَ الرسمِ. لم أقبلْ … و لن أسمحَ لها بالتعدي على سيطرتي و سلطاني …. أمسكتُ الفرشاةَ النظيفةَ التى لم تلطخها الألوانَ بعد- و لست أدري أغاضبةٌ أم متعبةٌ … أم هو ما كان ينقصُ اللوحةَ- و بدأتُ أدوُربالفرشاةِ في نصفِ اللوحةِ برسمِ دوائرٍ و مداراتٍ كتلكَ التي كانت في رأسي الذي أثقلهُ النومُ و أتعبهُ الهيامُ في عالمِ الفِكَر. تركتُ الغرفةَ.. و تركتُ اللوحةَ مثقلة بالألوانِ … ولا أظنها ستشكو من الفراغ ِبعدَ الآن
ان هذة اللوحة السرياليةتستحق وقفات طويلة يا سيدتي..لكي نفهمها …انها مرحلة النضوج اليافع و العبقرية اللامحدودة..فالجعبة ممتلئة بالامحدود و الافكار معبرة …تستحق هذة اللوحة أن تعرض في متاحف العالم الشهيرة ليكتب عنها كبار الكتاب آلاف المقالات…و يكفيني أن أقول آلاف المشاعر و الافكار في هذة اللوحة القيمة …ودمتم بمحبة الله
شكراً جزيلاً على هذا الإطراء الجميل
قصة معبرة صادقة و ملموسة. فيها حقائق من حياة القارئ أيا كان، كما الكاتبة 🙂
احسنت التواصل.
شكرا عزيزتي