قاطعَ يوسفُ شرودَ أفكارِرفيقهِ أحمد و قد كانتْ تتابعُ الأشجارَ الهاربةَ من القطارِ المسرعِ في العودةِ خشية أن يسرقها من ربوع ِ القريةِ الصغيرةِ إلى المدينةِ حيث تفقدُ رفقةَ النورِ و الطيرِ .سأله: ماهذا يا فيلسوفَ عصركِ و هو يشيُر لكتابٍ في حقيبتهِ المفتوحةِ و الملقاةِ على الأرضِ.استعادَ مشهدَ و حديثَ جدِه الذي أهداهُ الكتابَ القديمَ ذي الأوراقِ الصفرٍ المكتوب ِ بخطِ يدهِ، و قد لفَ بعنايةٍ بورقٍ مقوى أزرقِ اللونِ و ربطَ بخيط مجدلٍ، جزمَ قاطعاً أنها خيوطُ أكياسِ الأرزِ التي طبختها جدته. أجابَ أحمد: لقد أوصاني جدي العجوزقبلَ موتهِ بقراءةِ هذا الكتابِ مدعياً أنه كنزَ عمرهِ، أتدري .. لقد فتشتهُ، ظننتُ بهِ إيداعاً نقدياً أو ملكيةَ عقارٍ أو صكَ أسهمٍ و لكني لم أجدْ شيئاً. ردَ يوسفُ على ضحكاتِ أحمدٍ الساخرةِ : يا لهُ منْ عجوزٍ!. لم يقطعْ رنينَ ضحكاتهمِ سوى تعليقُ العجوزِ الجالس ِعلى الكرسي المقابل: لا حولَ و لا قوةَ إلا بالله. وصلَ القطارُ المدينةَ و ترجلَ الشابان يزاحمان العجوزَ الذي لاحظَ أن أحمدَ تركَ الكتابَ ملقىً على كرسيهِ و قال: يا ولدي كتابكَ. ردَ أحمدُ: ليسَ كتابي و لا أريدهُ، و غادرَ بدونِ تعليقٍ يقفزُ من بابِ القطارِ يلحقُ بصديقهِ
كادَ ينتهي من تنظيفِ القطارِ،و وصلَ إلى آخرِ مقصورةٍ حيثُ وجدَ العُم أيوبٍ الكتابَ الأزرقَ كما أسماه لاحقاً ، وضعهُ تحتَ إبطهِ و قد أحسَ بأنه كتابٌ حرصَ صاحبهُ على سلامتهِ و نظافتهِ من الطريقةِ التى غلفَ بها. ذهبَ إلي سائقِ القطارِ يسألهُ كيفَ يعيدُ الكتابَ لصاحبهِ فنصحهُ باستشارةِ مديرِ المحطةِ الذي ردَ عليه متهكماً: أتدري كم ألفِ مسافرٍيركبَ هذ القطار كلَ ساعةٍ؟ أنسَ هذا الأمرَ و تخلصْ من الكتاب. عادَ للبيتِ و بيدهِ الكتاب و ما إن فتحَ البابَ حتى قفزتْ الصغيرةُ ذاتُ العشرِ سنواتٍ الى حضنِ أبيها بالترحابِ، و قبلتْ يدهِ و سألته ما هذا يا أبي : أهديةٌ لي أمْ لأمي؟ تبسمتْ أساريرهُ و بدأتْ ملامحُ التعبِ و الإرهاقِ تزولُ بعدَ لقاءِِ زوجته و بناتهِ الأربع. حكى العمُ أيوب حكايةَ الكتابِ لزوجتهِ و بناته. علقتْ فاطمةُ أكبُر بناتهِ: دعنا نقرأُ ما فيه يا أبي. أصبحتِ العائلةُ تتنتظُر حلولَ المساءِ بفارغِ الصبرِ ليكتملَ شملهمُ تحتَ مظلةٍ من النورِ و السرورِ تظللهم بمجرد ِأن يبدأَ الأبُ بقراءةِ صفحةٍ واحدةٍ- بما فيها من حكاياتٍ و ألغازٍ و نكاتٍ و مواعظَ -كلَ مساءٍ كما إتفقتْ العائلةُ ليتمكنوا من الإستيقاظِ باكراً لأشغالهم. لقد صدقَ جدُ أحمدٍ حينَ قال: هو كنزُ عمري
مرَ على إنشاءِ محطةِ القطارِ مئتي عامٍ و أتى حفيدُ أحدُ الملوكِ العربِ الذين ساهموا في بناءِ و إنشاءِ المحطةِ للمشاركةِ في الإحتفالِ الذي يبثُ عبرَ التلفازِ، و كانَ الأميُر شاباً مثقفاً و معطاءاً كجدهِ، و أرادَ أن يعطى من رزقِ الله عليه للعاملين في المحطة. بعدَ أن ألقى كلمتهُ، قالَ للحضورِ لديّ أحجيتين لكلِ من يجيبُ عليهما مئةِ ألفٍ من الجنيهاتِ: أنصتتْ الآذانُ بخشوعٍ و لمعتْ العيونُ. سألَ الأميرُ مجيد: ما هو الشيء الذي مهما ضربتهُ لا ينكسرْ و يبقى صحيحاً؟ صمتْ الجميعُ و عمَ السكونُ، تلفتْ العمُ أيوب بخجلٍ يساراً و يمنةً، و حينَ أدركَ أنه لا مجيبْ، رفعَ يدهُ على استحياءٍ و أجابَ : العددُ واحد .. هو الرقمُ الذي مهما ضربتهُ سيبقى واحداً صحيحاً. ضحكَ الأميرُ وقالَ : لك ما وعدتْ ، أما الأحجيةُ الثانيةَ فهي: جدارٌ صلبٌ ليسَ من صخرٍ و لا حجر،يمنعُ عنك الخيرَ و صحبةَ الطيبِ من البشر، لا يفله بارودٌ و لا موجُ بحر؟ جالتْ عينا الأمير و هو يستمعْ لإجاباتِ العاملينَ الخاطئةِ بينَ سورِ برلينٍ و سورِ الصينِ العظيم ِو سدِ ذي القرنين و الغربةِ و الهجرِ. و حينَ رفعَ العمُ أيوب يدهُ مرةً أخرى اشرأبتْ الأعناقُ و صمتتْ كلُ الكلماتِ و قالْ: هي صفةُ العنادِ .. ضحكَ الأميرُ، و بدتْ ملامحُ السعادةِ عى وجههِ، و سألهُ عن إسمهِ و هنأهُ بالفوزِ بالمئةِ ألفٍ الثانية. و على استعجالٍ غادرَالأميرُ المحطةَ. التفَ حولَهُ زملاؤة و بعضُ الصحفيين يهنئونهُ و يسألوه عن سرِ ثقافتهِ، فحكي لهم قصةَ الكتابِ الأزرقِ و ما فيه من حكمٍة و معرفة
و ما إنْ أشرقَ النهارُ، و قدْ نُشرتْ في الصحفِ الأسرارُ حتى أتاه ُشرطيٌ يستدعيهِ الى قسمِ الشرطةِ بتهمةِ السرقة. كانَ يومُ المحاكمةِ و قد حضرَ جمعٌ لا بأس بهِ من الناسِ بعدَ اشتهارِ الأمرِ و الإعلان عن المحاكمةِ، و حضرَ العمُ أيوبٍ في مواجهةِ الشابِ أحمد و عائلته مطالبين بالكتابِ الأزرق. سردَ الشابُ حكايتَهُ ،و أنه أضاعَ الكتابَ في القطار. و حكى العمُ أيوبُ حكايته و استشهدَ بسائقِ القطارِ و مديرِ المحطة. تمِ تبرئةُ العمُ أيوب من السرقةِ و إعادةِ الكتابِ لأحمدٍ، و لكن حينَ أعقبَ أحمدُ على حكمِ القاضي قائلاً: و أيضاً من حقى أن تعودَ ليَّ المئتي ألفِ جنيهٍ التي أخذها هذا الرجلُ بسببِ كتابِ جدي مشيراً بيدهِ للعمِ أيوب. بدت ْعلاماتُ الدهشةِ و الإمتعاضِ على وجهِ القاضي ليسَ من السؤالِ و لكنْ من الطريقةِ الفظةِ التي خلتْ من التهذيبِ في صوتِ أحمد ، وقفَ رجلٌ عجوزٌ من بينِ الحضورِ يستأدنُ القاضي في الكلام ، و لكنَ القاضي أمهلهُ حتى ينهي سؤاله لأحمدٍ :كمْ عددُ الأيامِ على وفاةِ جدكَ حينَ غادرتَ القريةِ؟ قال أحمدُ: عشرةُ أيام. سألهُ القاضى: كانتْ وصيةُ جدكَ أنْ تقرأَ الكتابَ.. فكمْ صفحةَ قرأتَ؟ قالِ أحمدُ: كنتُ مشغولاً فلمْ أجدَْ وقتاً لقراءته. سأل القاضي العمَ أيوب : كم يوماً انتظرت لتقرأَ الكتابَ: قال: لقْد بدأتُ قراءتَهُ في نفسِ اليومِ الذي وجدتهُ و حفظتهُ و عائلتي عن ظهرِ قلبٍ لما فيهِ من علمٍ و نور. سكتْ القاضي. و أذنَ للشاهدِ الأخيرِ بالمثولِ و فوجيءَ أحمدٌ بالعجوزِ الذي كانَ جالساً في نفسِ المقصورةِ في القطارِ،و الذي أخبرَ الجمعَ كيفَ استهزىءَ أحمدُ و رفيقهُ يوسف بجدهِ و كتابهِ ،و أنهُ تخلصَ من الكتابِ عن قصدٍ و دونَ رغبةٍ في قراءتهِ أو معرفةِ ما فيه. أعلنَ القاضي حكمَه ُالنهائي: الكتابُ لم يعدْ ملكَ أحمد و لا أيوب ،الذي أظنهُ يملكهُ في قلبهِ و عقلهِ، بلْ أصبحَ ملكاً الشعبِ ومكانهُ المكتبةِ العامةِ و أما ما نالهُ أيوبٌ فهو لهُ نظيرَ أمانتهِ و رغبتهِ في العلمِ. قرعَ القاضي مطرقتهُ معلناً : رفعتْ الجلسة.