فتحتْ الكيسَ الأنيقَ و إمتدتْ يدُها لتناولِ اللفةِ الملونةِ ،و تبسمتْ و نظرتْ بحنانٍ إلى إبنتها فاطمة و قالتْ : ما هذا يا فاطمة؟ و غمزتْ بعينها فاطمٌة …و ردتْ قائلةً: هديةٌ لكِ يا أجملَ و أحنَ و أرقَ سيدةٍ بالكونِ. عطرٌ و أحمرُ شفاهِ و أدواتُ زينةٍ … هذهِ هديةٌ لعروسٍ مثلكُ يا بنيتي … تعلمين أني لمْ أستخدمُها منذُ سنينٍ حتى نسيتُ كيفَ أتزينْ, قاطعتها فاطمةُ و بنبرةِ حزنٍ لمْ تخفَ على الأمِ و قالتْ: لسنينٍ طويلةٍ يا أمي حتى نسيتِ أنك إمراةٌ و أنك زوجة. إرتدتْ أفكارْ مريمَ الى خمسةِ عشرَ سنةٍ الى الوراء … و غابت عيناها خلفَ الدموع.
بيتٌ مشرقٌ بالفرحِ و البشاشةِ و يغشى غرفاتهُ الرضا ،و يغمرهُ الذكرُ . هي مريمُ زوجةُ الداعيةِ الشاب محفوظ ،و قيلَ أنَ اللهَ حباهُ من كلِ النعمِ، و أنه رجلٌ محظوظ.. رزقهم اللهُ بعثمانَ و عدنان و فاطمة و تفانت مريمُ في تربيةِ الأولاد و مساعدةِ زوجها . كانت تدركُ صعوبةَ عملهِ ،وقدرَ الأمانهِ المعلقةِ برقبتهِ كداعٍ لرسالةٍ عظيمةٍ ،و إن كانت متعبةً ، و تتطلبُ منهُ كثرةَ السفرِ و الغياب. أنجبتْ مريمُ الطفلَ الرابعَ، و لكن أيمنَ لم يكنْ طفلاَ طبيعياً، طفلاً مريضاً و لديهِ إحتياجاتٍ خاصة، ليس ينفعُ فيها علاجٌ و لا جراحة. لم تعدْ تدركُ كيفَ تغيرتْ حياتها ،و لا كيفِ يمضي وقتها الذي تتناقصُ ساعاتهِ و هي تمرضُ الصغيرَ ،و تغسلهُ و تطعمهُ ،بالإضافةِ لمسؤليةِ الصغارِ الآخرين و البيت. و لم تفقْ إلا و محفوظ يشتكي يوماً من حديثها المملِ عن الأدويةِ و مواعيدِ الأطباءِ و ألم ظهرهِا و يتذمرُ من هيأتِها المهملةِ. سألتهُ إستقدام َخادمةً تساعدها في البيتِ ،و لكنه رفضَ لأنه لا يملكُ المال الكافي و، كانتْ تعلمُ أنه صادق.
نصحهمُ الأطباءُ باستئصالِ معدةِ الصغيرِ ،و أنْ يتمَ تغذيتهُ بالمحاليلِ و الأدويةِ، مما قد يسهلُ مهمةَ الأمِ التى كانت تمضي ساعاتٍ لتحضيرِ طعامِ الصغير المسجّى على فراشهِ و إطعامه. لكن الأمرَ كانَ أصعبُ، حيثُ باتتْ تمضي الوقتَ في تعقيمِ و غسلِ الأدواتِ و الخراطيمِ الموصلةِ بجسدِ الصغيرِ و لطحنِ الأدويةِ و إذابتها. باتَ الطفلُ يعاني من نوباتٍ و آلامٍ لا يستطيعُ بوحها ،لا يحسُ بها سواها ،و إحتاجَ للتنويمِ مراتٍ عديدةٍ في المستشفى. باتت تعرفُ عن الداءِ و الدواءِ و الممرضاتِ و الأطباءِ الكثيرْ ، و لكنَ ما كانتْ تحسُ به من ألمٍ و حزنٍ كانَ أكثرَ بكثير.
فاجأها محفوظٌ ذاتَ يومٍ بنيتهِ بالزواجِ، فهو يحتاجُ لزوجةٍ و ليسَ ممرضةٍ و قالَ لها: هذا قدرُ اللهِ أن رزقنا بطفلٍ مريضٍ و لنا الأجرُ و الثواب. خنقتها الغصةُ التي علقتْ في حلقِها و قالـت: هو ابني و قطعةٌ من روحي و جسدي، و أمومتي عرشٌ لا أتنازل عنه ما حييت، فإفعلْ ما طابَ لكَ. و فعلَ و لم تعدْ تراه سوى مراتٍ قليلةٍ كلَ شهرٍ ، يزورُ الأولادَ مستعجلاً ،و يتركُ لها مصروفَ البيتِ و يرحل ….. و لا يدري إنه من القلبِ.. أيضاٍ يرحل. بعدَ خمسةِ عشرَ سنةٍ و قد تزوجَ عثمانُ و سافرَ عدنانُ للدراسةِ ، و تزوجتْ فاطمةُ. و بعدَ شهرٍ رحلَ الصغيرُ إلي دارٍ ليسَ فيها ألمٌ و لا نصبٌ و لا عذاب، رحلَ كالطيرِ المحلقِ في السماء. أفاقتْ على يدِ فاطمةِ التي قبلتْ يدها و قالتْ: دعينا نعيشُ اليومَ يا أمي ،و ننسى الماضي. أعلمُ أن أبي سيأتي اليومَ لزيارتكِ ،فتزيني و تطيبي و دعي أبي يراكِ زوجته التي أحبها. دخلَ البيتَ على عجالةٍ ، و لمْ يشمَ طيبها ،و لم ينتبهَ إلى زينتها و ثوبها الحريري، و قال لها أنه مسافرٌ في الغد و أردف: تعلمين أني رجلٌ ذو عيال و كثيرِ السفر و الترحال ،و أنت وحيدةٌ الآن في شقةٍ غاليةِ الإيجار ، لا أحتملُ مصاريفها ، و أفضل أن تعيشي معي و زوجتي و أولادي في البيتِ , أرادت أن تقاطعهُ و قد سرتْ المرارةُ في دمِها ،و أحستْ بالمهانةِ و الغضب. رفعَ يده يسكتها … و قالَ: فكري في الأمرِ براحتكِ و حينَ أعودَ الأسبوُع المقبلِ كوني جاهزة … فذلك موعدُ دفعُ الإيجار. تركها في بحرٍ لجي الظلماتِ .. غشى العيونَ التي ليسَ لها كحلٌ سوى الدمعَ و العبراتِ.
ألقى محاضرتهُ وسطَ إستحسانِ الحضور، و وقفتْ إمراةٌ شابةٌ من وسطِ الحضور ِو قالت يا شيخنا لديّ سؤال: أنا إمراةٌ متزوجةٌ و عندي طفلةٌ ذاتَ ثلاثَ سنواتٍ ،و رزقنا منذُ سنةٍ بطفلٍ مريضٍ ،وزوجي يطالبني بوضعِ الطفلِ في دارِ رعايةٍ خاصةٍ بأمثالهِ من الأطفالِ ذوي الإحتياجات الخاصة، لأننا لا نملكُ المالَ لإستقدامِ خادمةٍ أو ممرضةٍ، و يهددني بتركِ البيتِ و الزواجِ من أخري.. أهو ولدي وحدي يا شيخ؟ … أهو مسؤليتي وحدي؟ .. أ أترك ولدي كالأيتامِ في الملاجيء و والديهِ أحياٌء ،إنصحني أرجوك. قالَ لها و قد علتْ هامتهُ بثقةٍ و عفويةٍ و تلقائيةٍ شديدةٍ: هو ولدكما ،و عليه أنْ يساعدكَ ،فالحبيبُ المصطفى عليه الصلاة والسلام كانَ يساعدُ أهلَ بيتهِ . قالتْ المرأةُ: بلْ أكثرَ من عملِ البيتِ يا شيخ ،فأنا أباتُ أياماً طويلةً مع الصغيرِ في المستشفى ،و أتركُ الصغيرةَ عند جاراتي .. لو تدري ما أعاني .. قاطعَها بحماسةٍ و قالْ : بل أدري … و لكنَ يدٍ من تحتِ الطاولةِ التي يشاركهُ فيها زملائه المحاضرين أوقفتهُ عن إكمالِ جملتِه. و تدخلَ زميلهُ و قالَ: إنتهى وقتُ الشيخَ محفوظ ،و الآنَ مع زميلنا محمد… لم يعدْ يسمعُ حديثاً، أو يرى أحداً. و تذكرَ قوَل اللهِ تعالى: “أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ. ” غادرَ القاعةَ يهرول، و في صدرهِ ضيقٌ و ألمٌ كيف أغلق قلبه عنها، كيف ترك مريمَ تعاني وحيدة سنين و سنين ، و كيفَ يجرؤ اليومَ على إهانتها.. .. و أيقظهُ رنينُ هاتفهِ الجوال ،و إذ بولدهِ عدنان يستأذنهُ بأنْ تأتي أمهُ لزيارتهِ و البقاءَ معهم بناءً على رغبتها. حزمَ أمتعتهُ ،و غادرَ الفندقَ و سأله الموظفُ: تأكد أنكَ لم تنسَ شيئاً يا سيدي. قالَ و هو يهزُ رأسَهُ بحسرةٍ و ندمٍ : بلْ نسيتْ ….. نسيتُ البرَ كله.
كثيرا ما تحدث امثال هذه القصص…نعم ليس لديه مال لجلب عاملة تساعد الزوجة..ولكن عنده مال لان يتزوج بإخرى ويفتح بيت جديدا وينجب اطفالا اخرين!!! لكن الله يا من ابتليتن بإزواج امثال هؤلاء.