و صاحَ الديكُ معلناً عن يوم ٍجديدٍ، و عن صبحٍ لناظرهِ قريب و عن نداءٍ لصلاةٍ و دعاءٍ لرب رحيمٍ مجيب. نظرت إليه و قد إنحنى رأسه على كتفه و إلتحفت ذراعاه صدره ،و تكومت قدماه إلى بطنه من البردِ. بكت و قالت: اللهم ظلمت نفسي فإغفر لي. غمرت الدموعٌ عينيها ،و تذكرت قبل عشرين سنةٍ ،حين أتى المهندس مصطفى ليسكنَ الفيلا المجاورة لبيتهم مع بناتهِ الثلاث ،و كان في الخامسةِ و الأربعين من عمرهِ و كان أرملاً. كان ميسورُ الحال طيبَ الخلق سعت كل نساء الحي لتزويجه بناتهن ، و كان من بينهن أمها التي ما إنفكت ترسلُ الطعامَ و الهدايا معها لبناته صباح مساء. تذكرت كم من الليالي أمضت و هي تدعو الله أن يكون من نصيبها ،و هي بنت التاسعة عشر ربيعاً. الطعامُ لذيذٌ و إبتسامتها جميلة ،و أحبتها الفتيات. تزوجها مصطفى و أكرمها و أصبحت حديثَ الحي على ما هيّ فيه من العز و الدلال. بعد عشرِ سنواتٍ تزوجت الفتيات و رزقت سعاد بثلاثةٍ من الأولاد، و ترقى المهندس مصطفى و إزداد الخيرُ و الرزقُ ،و غطت الأساورُ الذهبيةُ معصميَّ سعاد حتى المرفقين و تدلت العقود الذهبية من على كتفيها كالشلال ،و غدت كعروسِ المولدِ كلَ ساعةٍ في غير ثيابٍ و أجملِ حال. و غدت أسرةُ المهندس حديثَ كل سهرةٍ ،و على كل لسان. لكن دوامَ الحالِ من المحال ،فبعد عشرِ سنواتٍ أخرى إنتهى عملُ المهندسِ و أُحيلَ على المعاش ،و آن له أن يرتاح من شقاء ِالعملِ و النصبِ في ساعاتِ الصبح و بردها ،و ساعات الظهيرةِ و حرها. كان يملؤهُ شوقٌ للعملِ في حديقةِ منزله ،و أن يصنع مُعرشاً من جريدِ النخل ليجلسَ مع رفاقه و يسهرَ معهم و يدللَ نفسه بما أنعم الله عليه من ماله ليمضي الباقي من عمرهِ في هدوءٍ و راحة بال.
تذمرت من وجوده في المنزل و قد قيدَ من حركتها ،و قلل من زياراتها لجاراتها ،و ألزمها التسوق برفقته، أصبح يسألها عن كل صغيرةٍ و كبيرةٍ في البيت الذي أدرك أنه لم يكن يعرف فيه شيئاً . لم تعدْ تطيقُ وجوده في البيتِ و لم ترحبْ بضيوفهِ الذين يصدرون كثيراً من الضوضاء. خمسُ سنواتٍ أخرى و قد وهنَ منه العظمُ و خفَ البصرُ و تراخت يداه ،و بدأ الخبزُ يتساقط من بين شفتيه، و الأرضُ تغوصُ بالماءِ عندما يتوضأُ أو يغتسل.بدأ صوتها يتعالى و تأففها يزداد ،و خلا كلامها من الأدبِ و الإحترام . و بدأ الأولاد يهربون من البيتِ حتى لا يسمعون غضبها و سخطها. و باتت نسوةُ الحيّ يلومونها على ما تفعل بزوجٍ كريمٍ و أبٍ رحيم. و لكنها كانت تقول: أحاول و لكني لا أحتمل كثرة طلباته و أسئلته.
أصبحت ذات يوم تشتكي مغصاً شديداً ، لم ينفعْ فيه علاجٌ و بعد فترةٍ تم تشخيصه بسرطانٍ في الأمعاء، أتى الأهل و الأصدقاء و الجيران حيناً من الزمان لعيادتها و لكن الجمع إختفى بعد حين. و زداد الألمُ ،و ولت ملامحُ الشبابِ و القوةِ. إستنكف أولادها عن خدمتها ،و لكنه لم يتركها لحظةً، يطبخُ لها الطعامَ بيده و يطعمها إياه ،و يحرصُ على تناولها الدواء في مواعيده،و على تنظيفها و لملمةِ المتساقط من شعرها ،و غسل فراشها الذي تتقيأ عليه من حينٍ لحين . كان حبه و خوفه عليها يزيد من ألمها و يعذب روحها. كانت تستحلفه كلَ ساعةٍ أن يسامحها و يقسمُ لها أنه لم يكرهها يوماً ،و لم يحملْ في نفسهِ أيِّ ضغينةٍ لها.
أفاقت من هواجسها و ذكرياتها على يديهِ تمسحان وجنتيها من الدموع ، و قال لها: لم تبكْ الحسناء في ساعةِ صبحٍ ، إدعِ يا سعاد أن يشفيك الله ،فهذه ساعةٌ يستجاب فيها الدعاء. تركها قليلاً ،و عاد بماء ٍ دافيْ للوضوء و بدأ يغسل وجهها و يديها و قال لها و هو يحتضن ما تبقى من جسدها الهزيل ،و دمعها يتساقطُ كمطرٍ السماء : كفي عن البكاء نريدُ أن نصلي . قالت: سامحني أرجوك سامحني قالَ : إذا توقفت عن البكاءِ ، و بدأت بالإستغفار. و فعلت، و حملَ وعاءَ الماءِ و المنشفةِ البيضاء و غادرَ الغرفةَ ، و عادَ و ردَ السلام ، و فردَ سجادةَ الصلاةَ و قالَ لها: نصلي معاً . لم تردْ ،و لن تردْ ، و لكنَ الدمعَ لا زالَ عالقاً بين رموشِ عينيها المفتوحتين .
استرنا يا رب