قالَ لها : سأغيبُ أسبوعاً.. سأعقدُ صفقةَ العمر ِالتي ستغنيني و تجعلني من تجار ِالملك. ودعتهُ فرحةُ بالدعاءِ و الدموع. زاغتْ عيناه لا تستطيعُ عَدَّ المخازنَ و لا العمالَ و لا البضائعَ التي تكدستْ بها الطرقاتُ المؤديةِ للسوق. و في ديوانِ َالتجارِ الفسيحِ الذي تحومُ فيه رائحةُ المالِ ،و بريقُ الذهبِ و الفضةِ ،و يوزنُ فيه الكلامُ بالصاعِ و المكيال، قابلَ منصورُ سيدَ التجار و أغناهم و سأله الشراكةَ و وعدهُ بالسمعِ و الطاعة. إستقبلهُ نجمٌ ملكُ التجارِ في بيته لغرضٍ في نفسهِ لما رآى شدةَ حبهِ للمال, عَرّفَه على أولاده الثلاثة و إبنته هيام, فتاةٌ مغرورةٌ كثيرةُ الكلام. راودته نفسهُ قائلةً:تلكَ زوجةً تجعلكَ في عليةِ القوم ِ،و تقربك من الملوك. و ذاك ما كانَ في خاطرِ نجم ٍو ذاك كان المرام. أرسلَ منصورٌ مرسالاً لصالحِ العطار ،أَنّي طلقتُ إبنتكَ فرحةً و لم يعدْ ليّ بها رغبةً، فإذهبْ و خذْ إبنتك و إني مرسلٌ لك كيساً من الذهبِ به ما لها علىّ من حقٍ و زيادة. لم يصدقْ العطارُ أذنيهِ و لا ما رأتْ عيناه، و علمَ من المرسالِ أن منصوراَ قد تزوجَ من هيام.
تهادتْ كفراشِ الروضِ، تكادُ تطيرُ من الفرحةِ لرؤيةِ أبيها، قبلتْ يديهِ بحبٍ، و عانقتهُ بالدمعِ و اللهفِ ، و لكن تنهيدة ًزفرها أبوها بثتْ المرارةَ التي لم يستطعْ قلبهُ أن يخفيها. جفلتْ كمهرةٍ صغيرةٍ وقعتْ في الأسرِ، و سألته بذعرٍ شديدٍ: هلْ أمي بخير؟ أمسكَ يدها بحنانٍ و قالِ: إهدئي يا صغيرتي أن أمَك بخيرٍ. شدتْ على يدِ أبيها : أبي هلْ أصابَ زوجي مكروهٌ؟ صمتْ صالحٌ و إنحدرتْ الدموعُ من عينيه .. جلسَ الأبُ .. و قالَ لها: لقد أصيبَ منصورٌ بمرضٍ في رأسهِ، و قد تركتُ أمكَ تعتني به, فهلمي و إجمعي ما لديك من غالٍ تخشين عليه السرقةِ في غيابك و أسرعي لنعودَ للبيت. لم يكنْ لديها أغلى من طبقِ الفسفيساءِ الذي صنعته من آنيةِ الكرستالِ المكسورة. حضنُ أمها كان ملاذُها، و يداها كانتا منديلاً لطالما مسحَ دمعها. لم تستطعْ أن تفهمَ ما خطؤها ،و ما ذنبها .. أن لئيماً قد كسرَ قلبها. قالوا الأيامَ تداوي الجراحَ ، و لكن العطارَ يعرفُ أنِ كلَ داءٍ لابد َله من دواء. قالَ لها:يا فرحة, لا يصيبُ المؤمنُ أمراً حلواً و لا مراً ،إلا أراده الله أن يكون ، فبالصبر و الإيمان كلُ أمرٍ يهون.
مرت الشهور ، و ذات يومٍ أتى العطار و معه رجلين أحدهما عجوزاً كسا وجههُ التعبَ و الهلعَ و آخرُ شاباً فاقداً للوعي ،قد غطتْ الدماءُ جسدَه. أدخلهُ الرجلان غرفةَ العلاجِ الملاصقةِ لدكانِ العطار. أسرعتْ فرحةُ و أمها بإحضارِ اللازم ِمن القطنِ و القماشِ و الدواءِ .قال العجوز: لقدكنا نصطادُ و وقع ولدي باسلٌ من أعلى الجبل ِ. نام العجوزُ نومَ الأمواتِ و حينَ أفاقَ ، إستأمنَ العطارَ و أسرتَه على إبنهِ و قالَ : سأغيبُ نهاراَ أُبلغُ زوجتي و أهلي و أعود. أفاقَ الشابُ على وجهِ الحسناءِ و أيقنَ قلبُه بسريعِ الشفاءِ. حسنها بلسمٌ و طاعتها لوالديها برٌ و وفاءٌ ، وزادَ من حسنِها علمٌ قليلٌ ما تلمُ به النساء. كانت تصنعُ دواءَه بدقةٍ و حسبةٍ و ميزان ، حرفة ُالأجدادِ لا بد لها من حفيظٍ في كلِ أوان. وسطَ آنيةِ الزجاجِ الممتلئةِ بالحبوبِ و الأعشابِ ، جلسَ طبقٌ من الفسيفساءِ الملونِ كملكٍ بينَ كلِ الأنيةِ المصفوفةِ بعنايةٍ بالغةٍ علي رفوفِ إمتلأت بها الغرفة. و قالِ باسلٌ للعطارَِ: ما أجملَ هذا الطبقُ .. لقد خففَ جمالهُ ما بيّ من ألم ،و أذهبَ قليلا ًمما بالغرفةِ من ملل. مرَ أسبوعٌ و العطارُ يتسآلُ ما مصيرَ والدِ الشابِ الذي لم يعدْ ، و لكن طرقاً على البابِ أتى بالجواب. هو ملكُ البلادِ و حاشيتهُ تسدُ من القريةِ كل َعتبةٍ و بابْ ،و الشابُ باسلٌ إبنهُ و وحيده ،و العجوزُ خادمهُ و أمينه. و سألَ الملكُ العطارَ .. كيفَ يردُ جميلَهُ. قالَ الشابُ: يا أبي ألا تحبُ أن تزرعَ في حياتي فرحةً تدوم ؟ قالَ الملكُ :نعم ..و أحلى فرحة.. .تزوجَ الفتى فرحةً ،َ و أنجب منها صبيين قمةً في الأدبِ و الجمال.
ماتَ الملكُ، و تولى باسلٌ المُلكَ، و توالتْ جموعُ الرعيةِ لتقديمِ التهنئةِ و إبداءِ الطاعةِ و التبعية ،و أتى منصورٌ مع نجمٍ سيدِ التجار ،ُ خادماً يحملُ له هديةً للملكِ ،و كلما خطا خطوةً دفعهُ أحدَ إخوةِ زوجتهِ إلى الخلفِ قائلاً: ألم تتعلمْ بعدُ أن المقامَ محفوظٌ , و أن الدنيا حظوظُ . أتى الملكُ الشابُ مع طفليهِ الجمليين ،يزينان المجلسَ ،و قد إشرأبتْ الأعناقُ لرؤيتهمِ، و دعاهم الملكُ إلى طعامِ الغذاء،الذي يسيلُ له اللعاب. و بدأَ الجمعُ بتناولِ الطعامِ… إلا الملكَ. و إذ بخادمٍ يدخلُ المجلسَ و في يدهِ طبقٌ غريبٌ جميلٌ ملونٌ -سألَ منصورُ نفسه : أينَ رأيت هذا الطبقَ من قبل؟- و ناول الخادمُ الملكَ الطبقَ. … و أجاب الملكُ على تساؤلِ الجمعِ و إستغرابِهم: هو طبقٌ صنعته زوجتي الحبيبة ،أقسمتُ أنْ آكلَ فيه ما حييت .تذكرَ منصورُ قولَ الخادمةِ لفرحة: يا اللهُ ما أجملَ هذا الطبق و اللهِ ما رأيتُ مثلَه قط .و اللهِ إنه لطبقٌ جديرٌ أنْ يأكلَ فيه الأمراءُ و الملوك. قالَُ منصور و الحسرة تتنازعُ أحشاؤهُ: هي فرحةٌ جديرةٌ بملكِ لا بعبدٍ مملوك.
الروعة تزداد و تزداد..!
سلم القلم و صاحبة القلم الوفي المعطاء..!
الطيبون للطيبات..!..
ما ا كرمهن إلا كريم!
القصة تتضمن قيم و حكم لا يكتبها إلا عقل راجح!
احترامي أيتها الأديبة المتفوقة المتميزة علي الدوام..
و اسمحي يا دكتورة ان نطلق عليك لقب …….بنت القدس…..برجاء القبول !
ابوكرم
شكرأ با أبو كرم، و اللقب شرف كبير يسعدني
كل الاحترام