بيت الياسمين
حملَها أبوها علي كتفيهِ هارباً من الموتِ الذي لفَ كلَ الذين كانوا بالأمسِ أحياءً , لم يبقَ من بيتِ العائلةِ الكبير ِسوى زوجته و طفلته نجيبة, التي حملت بين ذراعيها شتلةَ الياسمينِ الصغيرة ِ، و لمْ ترضَ أن تغادرَ البيتَ إلا و هديةَ جدتها معها .نجيبةُ ذاتُ السنواتِ السبع ِالطفلةُ الجميلةُ الذكيةُ .و كما قالوا لها : لكِ من إسمكِ نصيبٌ كما لأبيها نجيب. أحبتْ الحقلَ و الزرعَ و ترعرعت قربَ الوادي و النبع, رغم أن أبيها لم يعزقْ يوما أرضاً، ولم يزرعْ شجرةً، و لمْ يحصدْ زرعاً, فهو نجيبُ العلمِ و صاحبُ الكتابِ، و حافظُ القرآنِ و قارئ ُالقريةِ في المأتمِ و القرآنِ.
رحلَ نجيبٌ تطارده الكوابيسَ و الأشباحَ، و وصلَ الى غزةَ ،و أقامَ مع المهاجرين في خيامٍ بلا أبوابٍ إمتلات بأطفالٍ و نساءٍ و شبابٍ.كستْ الوجوهُ الحسرةَ و غمرتها الذلةَ .كان نجيبٌ أولَ من وجدَ عملا ً،و إشتري بيتا ًعلى شاطئِ غزةَ الجميلِ، و أولُ شيءٍ فعلته العائلةُ هو تنفيذُ وصيةِ الجدةِ، كما أصرتْ نجيبةُ ,ألا و هو زرعُ شتلةُ الياسمين.
نجيبةُ بنتُ العزِ ،هكذا سميتْ في مدرسةِ المهاجرين التابعةِ لوكالةِ غوثِ اللاجئين, تفوقتْ نجبية ُعلى أقرانها و على أخويها الذكورِ من بعدها. ما إن أنهتْ دراستها في معهدِ المعلماتِ في رام الله ،حتى رحلَ نجيبُ الأبُ ،و تركَ الحملَ الثقيلَ علي كاهلِ الصبيةِ الجميلةِ التي لم يبقَ شابٌ إلا و طلبَ يدها. قرارها شجاعٌ و صعبُ . ما إن تَخَرّج الأخُ الأكبرُ أتته فرصةٌ ذهبيةٌ للعملِ في الكويت ،و بوعدٍ منه أنْ يعودَ، و أنْ يعوضَ نجيبةَ ما فات .إنتظرَ إبنُ خالتها الطبيبُ الذي يعملُ في الكويت أيضاً أن يجتمعَ شملهما بعدَ طولِ إنتظارٍ, و لكنَ الأمَ مرضت مرضاً غامضا ً-قالوا أنه نفسُ مرضُ الأبِ الذي لم يعرفوا تشخيصهُ بعد- منعَ نجيبةَ من تركِ والدتها و أخيها الذي كانت أمامهُ إمتحاناتُ الثانويةِ العامة. إشتدَ مرضُ الأمِ و أصيبتْ بالشللِ، و غادرَُ الأخ الي مصرَ للدراسةِ, بقيتْ نجيبةُ وحيدةٌ معْ أمٍ مريضةٍ و قعيدة, تصحو تصلي الفجرَ و تتنفسُ الصبحَ المغمسَ برائحةِ الياسمينِ التي تعطرُ المكانَ و يحملها الريحُ لكلِ البيوتِ و الجيران.
من لا يعرفُ الحسنَ الظاهرَ.. من لا يعرفُ الحياءَ الطاهرَ… لا يعرفُ نجيبة . ليس هناكَ منْ لا يحبُ نجيبة … ليسَ هناك منْ لا يحترمُ نجيبة .أتتْ حربُ الخليجِ، فرحلَ الأخُ الأكبرُ الى بلادِ العمِ سام ،و حصلَ على منحةٍ لأخيهِ الأصغر ،ليكملَ دراستهُ في أرقى الجامعاتِ .لم يطاوعُها قلبَها أنْ تعترضَ على فرصةٍ لن تعوضَ لكليهما ،و لكن بشرطٍ قالت: أنَ تعودا سريعاً و معاً.أيهما أسرعُ …القدرُ أم الأمل!. رحلتْ الأمُ ،و قد تمَ تشخيصُ مرضَها بإرتفاع ضغط الدمِ، و همسَُ الطبيب في أذنها :إحذري يا نجيبةَ فوالديكِ توفيا بنفسِ المرضِ، و إحتمالٌ كبيرٌ أن تصابي به. بلغتْ نجيبةُ الخامسةَ و الأربعين. ولتْ ملامحُ الشبابِ، و بدأتْ الأيامُ تكتبُ القصصَ، و ترسمُ الصورَ على وجههِا. إمتلاتْ حديقةُ البيتِ بالوردِ ،و غطتْ شجرةُ الياسمينِ كلَ الجدرانِ , و أنجبتْ كلُ صاحباتِها البناتَ و الأولادَ, و إشترتْ لهمُ الهدايا و حضرتْ حفلاتِ زفافِ بناتِ و أولادِ كلِ الجيران ،و رقصتْ و غنّتْ مع كلِ فرحانٍ ,و ظلتْ تنتظرُ أنْ يزورها الفرحَ، و أنْ يأتي الأخوةُ، الذين تزوجوا و أنجبوا ،ْو حسنت في عيونهِم أوطانٌ ليستْ لهم أوطان.
كانَ الفصلُ ربيعاً ،و الأخوةُ سيأتون ،و الصبيةُ الصغارِ سيأتون ،يملؤنَ المكانَ بالفرحِ ,ستسمعُ صوتاً غيرَ صوتِ موجِ البحرِ و زقزقةِ العصافيرِ و السمانِ، و طنينِ النحلِ الذي ما إنفككَ يغازلُ الياسمينَ , حملتْ فنجاناً من الشاي ،و جلستْ على كرسي منَ الخيرزانِ، لمْ يغادرْ مكانَه منذُ أنْ تركَه نجيبُ الأبُ آخرَ مرةٍ .و ها هو يومُ الجمعةِ، أحستْ بفرحٍ يملأُ قلبها, لبستْ أجملَ ثيابِها ،و تزينتْ بكلِ ما لديها من حُليٍ أهداها إياها أبوها و أخويها. إعتادتْ نجيبةُ أنْ تصنعِ حلوى الأرزِ بالحليبِ لإبنِ الجيرانِ الصغيرِ أحمد صباحَ كلِ يوم جمعة, و لكنِ الحلوى لمْ تأتِ و بكى أحمدٌ بكاءً شديداً ،و لكنَ الأمَ رفضت أن تسالَ .. لِمَ لم ْتأتِ الحلوى؟ تسللَ الصغيرُ الي بيتِ جارتهِ المحبوبة ،و أخذَ يقرعُ البابَ بيديهِ الصغيريتن ،و لمْ يجبهُ أحدٌ ،فتناولَ حجراً ،و بدَأ يقرعُ البابَ بشدةٍ ،فإنتبهَ الجيرانُ ،و لمْ تفتحْ نجيبةُ الباَب ،أصابَ الخوفُ الجميعَ فقرروا كسرَ البابَ . كانتْ نجيبةُ جالسةً ،و عينيها إلى السماءِ و على وجهِها إبتسامةٌ عريضةٌ. تلبسُ ثوبَها الأبيضَ و شاشتُها البيضاءُ المطرزةُ بزهورِ الياسمين. لم يستطعْ أيُ أحدٍ أن يذرفَ دمعةً، فقدْ قطعَ صوتُ آذانَ الجمعةِ الأولِ السكون . غصَ المكانُ بالجيرانِ و صلى كلُ صغيرٍ و كبيرٍ في كلِ مكانٍ خطتْ فيهِ نجيبةُ خطوةً و لو مرةَ . أتى الأخوةُ بعدَ إسبوعٍ لوداعِ ما بقيَ لهم في ذلكَ البيتِ الذي صمتْ فيه كلُ شيئٍ . باعَ الأخوةُ البيتَ الذي سوّي بالأرضِ بعدَ إسبوعٍ واحدٍ، ليبدأَ بناءُ عمارةً ضخمةً غاليةَ الثمنِ. و إنْ رحلَ عطرُ الياسمين ،و إن إختفي البيتُ، فهي باقيةٌ في قلوبِ كلِ من عرفَ معنى المحبةِ و الصدقِ و الحياءِ .. و كلِ منْ تذوقَ الجمالَ و ألمَ الأنتظارِ.
و كم من نجية في فلسطين و العالم. تحترق الشمعة لتنير دروب الأخوة و الاخوات في الأسرة الواحدة و تتفاني لدرجة نسيان الذات. وهذا شيء أكثر من رائع.
و لكن إياك يا نجية أن تنسي نصيبك من الدنيا.
___________________________________
الكاتبة العملاقة.’راوية’ بنت فلسطين و القدس و العرب لك منا كل الاحترام يا دكتورة الأدب و الفنون.ابوكرم
شكرا جزيلاً على التشجيع الدائم.
التفاني و التضحية بكل معنى الكلمة…الثواب و الأجر العظيم لنجيبة و كل من أنار طريق غيره حتى انطفئ….للأسف الأنانية و المصلحة طغت على كل المعاني الجميلة …و ما عاد لنا إلا الذكريات…رائعة كالعادة راوية.لك مني كل التقدير و الإحترام 🌹 سوسن
شكرا يا عزيزتي على كلامك الجميل .
بارك الله فيكي وفي كتاباتك وجزا الله كل اخ اواخت كرسوا حياتهم في إعالة والديه وإخوته في مرضاة الله
أمين و شكراً على زيارتك للمدونة