يوم من الزمن الجميل

motherhood1

يوم من الزمن الجميل

وضعت يدي في يدها الكبيرة الدافئة التي احتضنت فرحتي قبل يدي، كانت رجلايَ تهرولان من الفرحة و أنا واقفة في مكاني انتظر سيارة الأجرة المتوجهة الى جباليا، للحظة حاولت أن أتذكر ماذا وضعت في الحقيبة الصغيرة التي حملتها خالتي خضرة في يدها الثانية، كل ما أذكره أني كنت أطير لا أسير و أنا ألملم بعض الثياب على عجل خشية أن يغير أبي رأيه و أمي تلاحقني في أنحاء الغرفة وتوصيني لا تنسي و اياك و لا تفعلي. كل ما أذكره هو أول كلمة من كل جملة قالتها. قارب الوقت على اّذان العصر و ركبنا سيارة ولأول مرة انظر الي وجه خالتي المرهق وقد انتظرت طويلا لتتمكن من رؤية أبي بعدما غادر كل المرضي العيادة ثم إقناعه بالسماح لي بالمبيت في بيتها… أمر شبه مستحيل لم يمنحه أبي لأحد من أخواتي الثمانية، ولكن مع خالتي خضرة يختلف الامر تماما. لم تكن خالتي خضرة كباقي النساء لا شكلا و لا مضمونا، طويلة، و بيضاء، جميلة، سوداء الشعر و العيين كل ما فيها عربي أصيل و جميل، و لكن لهدوئها سحر و لطيب منطقها عطر و لحسن خلقها وقار يجعل كل من عرفها يحبها. كيف لا، و هي من فرحت لكل أخ و صديق و جار و رفيق رقصت و زغردت في فرحهم، و عزت و واست لكل من عرفت حزنهم. يعرفها من رأى نور الشمس و يحبها كل من أحب الكرام . وصلنا الي التل الرملي و توقفت السيارة و رحت أركض و رجلاي تغوصان في الرمل الأبيض، الي أن وصلت الى أعلي الحاكورة، و أخذت نفسا عميقا مشبعا بعطر الليمون و الياسمين، أشجار التين الباسقة والتفاح و التوت، و صديقتي شجرة الجميز العجوز التي تثاقلت أغصانها بالثمر.

كنت أحسست تلك اللحظة أني دخلت الجنة، لم أفق الا على أصوات أولاد خالتي الفرحين بقدومي الذي فجاءهم، خليل و فاطمة و عبد العزيز و إبراهيم. كانت خالتي خضرة تعيش في نفس البيت الذي يسكنه جدايّ ستي فاطمة و سيدي علي و كان لكلا البيتين باب منفصل لم يوصد أبدا و يفتح كليهما على الحاكورة الكبيرة التي تحوي كل المفردات التي تعبر عن الحياة. الحمام يرفرف بجناحيه يرحب بي في بيت السلام و الدجاج و الكتاكيت تقفز برشاقة كأنها ترقص الباليه و البط و ديك الحبش الذي يتمختر من أمامي يستعرض كأنه يؤدي سلاما ملكيا

أسرعت و احتضنت ستي وقبلت يديها و نظرت لخالتي وفي عينيها علامات الاستفهام، و قالت لها: قلقت عليك يا بنتي ولكني عرفت لم تأخرت الأن، ظهر زوج خالتي أبو خليل و حيا خالتي بتحية هادئة دافئة ليس فيها لوم و لا عتاب و كأنه يقول لها اشتقت اليك ورحب كثيرا بقدومي، ركضت مع فاطمة التي كنت أسميها طمطم لأسلم على سيدي وخالي عبد الرحيم و عروسه نوال.

أذكر جيدا كيف كانت أمي تبذل جهدا لتقنعني بتذوق طعم طبيخ البامية الذي لم احبه يوما، كان الغذاء بامية التي لم أذق أطيب من طعمها يوما و منذ ذاك الوقت أحببت كثيرا من الأشياء أحببت صحوة الفجر مع الطير الغادي الي رزقه مستبشرا مغنيا و أحببت صوت المؤذن لصلاة الفجر و قد استيقظ كل من في البيت يملأ وجوههم الرضا، أحببت الضوء الذي انتشر في أرجاء البيت المفتوح الذي يعانق السماء فلا يحجب فيه الدعاء. أحببت البيت الذي ضج بالحياة و صوت الكائنات بلا صخب ولا ضجيج، أحببت البيت الذي لم توصد به الأبواب كما القلوب مفتوحة ترى فيها الحب و البساطة. نهض الجميع و كل من أولاد خالتي حمل فراشه ووضعه على الدكة الخشبية و فعلت مثلهم، حضّر العم أبو خليل الشاي و ذهب خليل لشراء الفول والفلافل ولكن أين خالتي؟ ذهب أجري خلف فاطمة في الحاكورة لأراقب خالتي و هي تخبز الخبز في الفرن الطيني خلف البيت و ركضت لأشاهد ستي وهي تضع فتات الخبز المبلل بالماء للدجاج والبط. ستي … هل يمكنني أن أخذ البيض من الخم؟ ضحكت ستي وقالت لي: يا الله انت فاطمة لموا البيض و تعالوا أعملكم خبزة بالبيض.

جلسنا بجوار خالتي و هي تناول ستي رغيف العجين الذي كسرت عليه ستي البيضة و رشت عليه قليلا من الزعتر، و ناولته لخالتي التي أدخلته التنور و ما هي الا دقائق و أخرجت الرغيف كأنه طبق من ذهب. طعم الرغيف لا زال على لساني و أذكر كيف امتدت يداي أنا فاطمة لالتهام الرغيف. حملنا فرش الخبز المقمر الى بيت سيدي حيث جلس سيدي الحاج علي و زوج خالتي وخالي عبد الرحيم و زوجته نوال وأولاد خالتي لتناول الافطار. أذكر أني لم أتوقف عن السؤال كيف و.؟ ومتى … وأين … ولماذا؟ و أذكر الضحكات الهادئة وقصص سيدي المضحكة. أذكر ضحكات من القلب لها طعم جديد لها فرحة العيد، أذكر سعادة الإحساس بالحياة و الفرح و الرضا. هي ذكريات الزمن الجميل. اللهم ارحم الأحبة الذي فارقونا و اسكنهم جنانك و اشملهم برضاك و غفرانك. هم الذين غابوا عن النظر و لكنهم يسكنون القلب و يعطرون المكان كلما عنّ ذكراهم على البال و الخاطر.

One Comment اضافة لك

  1. كريم كتب:

    رائعه

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s